عقيدة أهل الجاهلية في العطاس

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فقد ذكرنا في الدرس الماضي طائفة من أحكام العطاس وآدابه، وسوف نتم الكلام عن موضوع العطاس وندخل في أدب التثاؤب والجشاء، وكذلك البصاق والتفل والنخاعة والنخامة إذا كان الوقت متسعاً.

ندخل في تتمة الكلام عن موضوع العطاس، ونذكر النقطة التي أشار إليها أحد الإخوة، ونتكلم عنها في هذه الليلة، ماذا كان يعتقد العرب في العطاس؟ قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة: ومما كان الجاهلية يتطيرون به ويتشاءمون منه العطاس، كما يتشاءمون بالبوارح والسوانح -هذه من أنواع الطيور التي كانوا يتطيرون بها، وأتى ببعض الأبيات تدل على تشاؤم أهل الجاهلية من العطاس- قال: وكانوا إذا عطس من يحبونه قالوا له: عمراً وشبابة، وإذا عطس من يكرهونه، قالوا له: وراً وقحابة، والوري: داءٌ يصيب الكبد فيفسدها، والقحاب: السعال وزناً ومعنى، فكأنهم يدعون عليه بالداء الذي يصيب كبده وبالسعال، فكان الرجل إذا سمع عطاساً فتشاءم به يقول: بك لا بي، أي: أسأل الله أن يجعل شؤم عطاسك بك أنت لا بي أنا، وكان تشاؤمهم في العطسة الشديدة أشد، كما يحكى عن بعض الملوك أن مسامراً له عطس عطسةً شديدة راعته -أي: أخافته- فغضب الملك، فقال سميره: والله ما تعمدت ذلك، ولكن هذا عطاسي، فقال: والله لئن لم تأتني بما يشهد لك بذلك لأقتلنك، فقال: أخرجني إلى الناس لعلي أجد من يشهد لي، فأخرج وقد وكل به الأعوان، فوجد رجلاً، فقال: ناشدتك بالله إن كنت سمعت عطاسي يوماً فلعلك تشهد لي به عند الملك، فقال: نعم.

أنا أشهد لك، فنهض معه فقال: أيها الملك! أنا أشهد أن هذا الرجل يوماً عطس فطار ضرس من أضراسه، فقال له الملك: عد إلى حديثك ومجلسك.

يقول ابن القيم رحمه الله فلما جاء الله بالإسلام وأبطل برسوله ما كان عليه الجاهلية الطغاة من الضلال والآثام، نهى أمته عن التشاؤم والتطير، وشرع لهم أن يجعلوا مكان الدعاء على العاطس بالمكروه دعاءً له بالرحمة -أي: إذا كان أهل الجاهلية يقولون: بك لا بي، إذا عطس، وأيضاً يدعون عليه بالداء والمرض والسعال، فجاء الله عز وجل بهذا الشرع المطهر الذي فيه الدعاء للعاطس بالرحمة، وحمد العاطس الله عز وجل بعد العطاس.

ولما كان الدعاء على العاطس نوعاً من الظلم والبغي جُعل الدعاء له بلفظ الرحمة المنافي للظلم، وأُمر العاطس أن يدعو لسامعه ومشمته بالمغفرة والهداية وإصلاح البال، فيقول: يغفر الله لنا ولكم، أو يهديكم الله ويصلح بالكم، فأما الدعاء بالهداية فلمّا أنه اهتدى إلى طاعة الرسول، ورغب عما كان عليه الجاهلية فدعا له ليثبته الله عليها ويهديه إليها.

لما قال هذا العاطس: الحمد لله، فقال له المشمت: يرحمك الله، فيقول: يهديكم الله ويصلح بالكم.

وكذلك الدعاء بإصلاح البال وهي كلمة جامعة لصلاح شأنه كله وهي من باب الخيرات، ولما دعا لأخيه بالرحمة فناسب أن يجازيه بالدعاء له بإصلاح البال، أما الدعاء بالمغفرة فجاء بلفظ يشمل العاطس والمشمت، فيقول: يغفر الله لنا ولكم، ليتحصل من مجموع دعوى العاطس والمشمت لهما المغفرة والرحمة معاً، وهو تأسٍ أيضاً بآدم عليه السلام.

هذا بالنسبة لما كان عليه أهل الجاهلية، وما جاء الله به في هذا الدين من إبطال ذلك وإبداله بالأمر الحسن.

أما بالنسبة لحديث: (من سبق العاطس بالحمد أمن من الشوص واللوص والعلوص) فهو ضعيف، ولذلك لا يسبق العاطس بالحمد؛ لأنه قال: من سبق العاطس بالحمد، فإذاً: العاطس يترك حتى يحمد الله سبحانه وتعالى، وهذا الشوص وجعٌ في البطن والضرس، والعلوص وجعٌ في التخمة ووجعٌ في البطن، واللوص: وجعٌ في الأذن، أنواع من الأوجاع.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015