أيها الإخوة: لقد عملت هذه الأحاديث عملها في نفوس الصحابة، فاستجاب أصحاب الديون للترغيب الصادر من رسولهم صلى الله عيه وسلم، فبدءوا يضعون الديون عن المعسرين، ويتجاوزون عنهم، وينظرونهم إلى آجال طويلة، حتى يستطيعوا القضاء؛ لأنهم سمعوا رسولهم صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: (من أنظر معسراً أو وضع عنه، أظله الله يوم القيامة تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله) وقال عليه السلام: (من نفس عن غريمه أو محا عنه كان في ظل العرش يوم القيامة).
بل إنهم قد سمعوا أحاديث فيها ترغيب شديد؛ يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (ما من مسلم يقرض مسلماً قرضاً مرتين إلا كان كصدقة مرة) فلو أقرضت مسلماً قرضاً ثم أخذته، ثم أقرضته ثم أخذته، فكأنك تصدقت بهذا المال، مرة واحدة، ولك أجر صدقة كاملة عن هذا المال وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (من أنظر معسراً فله بكل يوم مثله صدقة قبل أن يحل الدين، فإذا حل الدين فأنظره، فله بكل يوم مثلاه صدقة).
فإذاً إنظار المدين إلى حلول الأجل وإلى ما بعد حلوله فيه أجر عظيم، وكان بعض السلف يسلفون أموالهم للناس انتظار الثواب العظيم من الله عز وجل، فلقد كانت أحاديث الترغيب تفعل فعلها في نفوسهم.
إن إسلاف الناس كان له أثر في إنقاذ نفوس من جهنم؛ يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (حوسب رجل ممن كان قبلكم فلم يوجد له من الخير شيء، إلا أنه كان رجلاً موسراً -غنياً- وكان يخالط الناس، وكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر، فقال الله عز وجل لملائكته بعد أن مات هذا الرجل: نحن أحق بذلك منه تجاوزوا عنه) الله أكرم الأكرمين، أحق من هذا الرجل بالتجوز فتجاوز الله عنه سيئاته.
وفي حديث صحيح آخر: (أتي الله عز وجل بعبد من عباده آتاه الله مالاً، فقال: له ماذا عملت في الدنيا؟ فقال: ما عملت من شيء يا رب إلا أنك آتيتني مالاً، فكنت أبايع الناس، وكان من خلقي أن أيسر على الموسر، وأنظر المعسر، قال الله تعالى: أنا أحق بذلك منك، تجاوزوا عن عبدي) وفي رواية صحيحة أخرى: (أن رجلاً لم يعمل خيراً قط، وكان يداين الناس فيقول لرسوله: خذ ما تيسر واترك ما عسر، وتجاوز لعل الله أن يتجاوز عنا، فلما هلك قال الله: هل عملت خيراً قط؟ قال: لا، إلا أنه كان لي غلام وكنت أداين الناس، فإذا بعثته يتقاضى قلت له: خذ ما تيسر، واترك ما عسر، وتجاوز لعل الله أن يتجاوز عنا، قال الله: قد تجاوزت عنك).
أيها الإخوة: هذه الآيات القرآنية: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280]، وهذه الأحاديث النبوية تبشر بهذه الأجور العظيمة لمن تغاضى عن ديون الناس وأنظرهم وأخر آجال الاقتضاء حتى يستطيعوا الوفاء، وهي رسائل لأصحاب الديون من الأغنياء أو من غيرهم، ممن يطاردون المدينين فيرهقونهم، وقد يزجون بهم في السجن، وخلفهم عيال فقراء، ومع أن سجن المدين من حق الدائن، ولكن {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40] ومن أنظر فأجره على الله، والأجر الدائم خير لك من هذا المال الفاني في هذه الدنيا.