وفاتنا شيءٌ أن نذكره في بداية الحديث وهو: هديه صلى الله عليه وسلم في الأكل عموماً ملخصاً فلعلنا نرجع إليه الآن قبل أن يفوتنا ذكره ونحن شرعنا في التفاصيل.
لقد ذكر ابن تيمية رحمه الله طائفة عامة من هديه عليه الصلاة والسلام في الطعام، وكذلك ابن القيم رحمه الله تعالى ذكر طائفة عامة من هديه عليه الصلاة والسلام في الطعام، فلنعد إلى ذلك قبل أن نسترسل في التفاصيل: فقد ذكر الإمام تقي الدين أحمد بن عبد السلام رحمه الله تعالى في موضوع آداب الطعام ما يلي: قال: وأما الأكل واللباس فخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وكان خلقه في الأكل أنه يأكل ما تيسر إذا اشتهاه ولا يرد موجوداً، ولا يتكلف مفقوداً، فكان إذا حضر خبزٌ ولحمٌ أكله، وإن حضر فاكهةٌ وخبزٌ ولحمٌ أكله، وإن حضر تمرٌ وحده أو خبزٌ وحده أكله، وإن حضر حلوٌ أو عسلٌ طعمه أيضاً، وكان أحب الشراب إليه الحلو البارد، وكان يأكل القثاء بالرطب، فلم يكن إذا حضر لونان من الطعام يقول: لا آكل لونين -ربما بعض الصوفيين الذي يدعون الزهد، إذا حضر بين يديه لونان من الطعام قال: لا آكل لونين ارفع واحداً حتى آكل- ولا يمتنع من طعام لما فيه من اللذة والحلاوة بحجة أنه يشغل عن العبادة أو أنه منافٍ للزهد، فإنه يأكله ولو كان مشوياً لذيذاً يأكله -مادام حضر، ما دام حلالاً طيباً- وكان أحياناً يمضي الشهران والثلاثة لا يوقد في بيته نار، ولا يأكلون إلا التمر والماء، وأحياناً يربط على بطنه حجراً من الجوع، وكان لا يعيب طعاماً فإن اشتهاه أكله، وإلا تركه، وأكل على مائدته لحم ضبٍ فامتنع عن أكله وقال: (إنه ليس بحرام، ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه).
وقال رحمه الله تعالى: كذلك في مسألة أكل الطيبات.
بعد ما أتى بحديث الإنكار على الثلاثة الذين حرموا ما أحل الله على أنفسهم، وقال أحدهم: أما أنا فلا آكل اللحم، قال عليه الصلاة والسلام: (لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني) طبعاً هذا فيه رد على النباتيين الذين يأكلون الأشياء النباتية من باب الزهد، يقولون: لا نأكل اللحم؛ لأن أكل اللحم منافٍ للزهد، فإذاً هؤلاء مبتدعة ومن أنواع البدع البدع التركية؛ لأنه يترك أشياء لم تأمر الشريعة بتركها، مثل أكل اللحم تزهداً وتقرباً، فهذه من أنواع البدع، لكن إن تركه؛ لأنه يضر به، أو لوصية الأطباء واقتصر على أكل الفاكهة والخضار، فإنه ليس بمبتدعٍ والسبب في ذلك نيته، فإن نيته في الحالة الأولى: تركه تقرباً إلى الله، وفي الحالة الثانية: تركه لأنه يضر به.
فقال رحمه الله: وقد كان اجتمع طائفةٌ من أصحابه على الامتناع من أكل اللحم ونحوه وذكر الحديث ثم قال: وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:172] فأمر بأكل الطيبات والشكر لله، فمن حرم الطيبات كان معتدياً، ومن لم يشكر كان مفرطاً مضيعاً لحق الله.
وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها) وفي الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر) فهذه الطريق التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم هي أعدل الطرق وأقومها والانحراف عنها إلى وجهين، ملخص الوجهين: أولاً: قومٌ يسرفون في تناول الشهوات.
ثانياً: قومٌ يحرمون الطيبات.
فإذاً الانحراف في هذا سيأتي من هذين الطريقين، الطريق الأول: قوم يسرفون في تناول الشهوات، والله يقول: {كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف:31].
الطريق الثاني: قومٌ يحرمون الطيبات والله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة:87].