حسن الاستماع والإصغاء للآخرين

ومن لوازم الهدوء في الحوار: حسن الاستماع والإصغاء للآخرين، وإعطاؤهم الفرصة للتعبير عن آرائهم، أحياناً ينشغل المحاور بإخراج كل ما في جعبته، ويكون هذا همه، لكن هذه طريقة قد لا تكون مقنعة للآخر؛ لأنه ليس المهم فقط أن يفرِّغ الإنسان كل ما في جعبته، بل من المهم أيضاً أن يستفرغ ما في جعبة الطرف الآخر، إذا استفرغت ما في جعبة الآخرين سهل عليك الرد، لا أن تقول كل ما عندك، ثم يقول هو كل ما عنده.

والقضية قد لا تحتاج لكل هذا، فيكفي قليل من الكلام، ولذلك فإعطاء الخصم فرصة ليتكلم يساعد على إخماد ما لديه من الشبهات، والمحاور الجاد هو الذي يهتم بصاحبه ويصغي لكلامه، وعدم الإصغاء وكثرة المقاطعة والاعتراض سيجعل الأمر أكثر صعوبةً، والمشكلة أننا أحياناً لا نتناقش مع أهل البدع والعلمانيين والمنافقين، نتناقش مع إخواننا وأصحابنا وزملائنا، وربما عاملنا هذا مثل هذا، وهذا ظلم، إذ كيف تعامل أخاك بالحوار مثلما تعامل المبتدع والضال والكافر والمنافق؟ ولا يكن ديدن الواحد كما قال القائل: إذا كنت تريد أن ينفض الناس من حولك ويسخروا منك عندما توليهم ظهرك، فهاك الوقفة: لا تعط أحداً فرصةً للحديث، تكلم بغير انقطاع، وإذا خطرت لديك فكرة بينما غيرك يتحدث فلا تنتظر حتى يتم حديثه لأنه ليس ذكياً مثلك، فلماذا تضيع وقتك بالاستماع إلى الكلام السخيف، اقتحم عليه الحديث واعترضه في منتصف كلامه.

ولا شك أن مثل هذا لا يمكن أن يحبه الناس، ولذلك فالعبرة بكسب الأشخاص لا بكسب المواقف، يعني: أنت قد تدخل في نقاش وتسجل نقطة على الخصم، لكن لم تكسبه، لأنك لم تعطه فرصةً للحديث، فقد يقول الناس: فلان غلب فلاناً، لكنك خسرت الرجل وإن كسبت الموقف، فالذكي لا ينظر إلى كسب المواقف فقط، ينظر إلى كسب الأشخاص أيضاً.

وبعض المحاورين يسارع إلى الرد، ويبادر في المقاطعة قبل أن يستقبل صاحبه الحجج والبراهين التي لديه، وهذا يؤدي إلى شحن وإثارة النفوس، والشريعة قد جاءت بكل ما يقطع النزاع ويغلق أبواب الخصام والنفور، وبعض الناس ربما إذا جاء الشخص الآخر بالحديث يقول: هذا معروف، أو أعلم ذلك إلخ.

كان عطاء بن أبي رباح رحمه الله يقول: إني لأسمع الحديث من الرجل وأنا أعلم به منه فأريه من نفسي أني لا أحسن منه شيئاً، وقال: إن الشاب ليتحدث بحديثي كأني لم أسمعه، ولقد سمعته قبل أن يولد، وقال بعضهم: أسمعه كأني أسمعه منه المرة الأولى وقد سمعته من غيره ثلاثين مرة.

وتراهم يفضي بالحديث بسمعه وبقلبه ولعله أدرى به، كما قال الشاعر:

وتراه مصغٍ للحديث بسمعه وبقلبه ولعله أدرى به

فإذا خرج الخصم من الحوار وقد عرف بأنك إنسان تريد الوصول إلى الحق، وأنك مؤدب في النقاش، فهذا مكسب، وينبغي أن يكون كل واحدٍ من الخصمين مقبلاً على صاحبه بوجهه في حال المناظرة، مستمعاً إلى كلامه إلى أن ينهيه، فإن ذاك طريق معرفته والوقوف على حقيقته كما ذكر الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى: وليتق المناظر مداخلة خصمه في كلامه وتقطيعه عليه، وإظهار التعجب منه، ولا يمكنه من إظهار حجته، فإنما يفعل ذلك المبطلون والضعفاء.

قال حكيم من الحكماء لابنه: تعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الكلام؛ فإن حسن الاستماع انتباهك للمتكلم حتى يفضي إليك بحديثه، والإقبال في الوجه والنظر والصبر حتى ينهي الآخر ما لديه من الأخلاق التي يحتاج إليها في المناظرة، وليس حسن الاستماع مجرد الإنصات، فبعض المحاورين يسكت ويجعلك تتكلم وتتم الحديث دون مقاطعة، لكن يتغافل عنك ويتشاغل بكتابٍ بين يديه يقلب أوراقه، أو يعبث بالقلم أو ينظر إلى السماء، وربما انتهيت وهو لا يدري أنك انتهيت، فهذا في الحقيقة ما أنصت وإنما سكت، والإنصات هو الانتباه لما يقوله الآخر.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015