فقد تقدم الكلام في الحلقة الأولى عن آداب الحوار، ونتابع الحديث اليوم في الحلقة الثانية من هذا الأدب الذي يحتاجه كل باحثٍ عن الحق، وكل داعيةٍ إلى الله، وكل أخ في مناقشة إخوانه من المسلمين، ويحتاجه حتى الزوج مع زوجته، والولد مع أبيه وأمه، وهذه المسألة -وهي مسألة الحوار- إذا كانت في الحق فإن الله سبحانه وتعالى يوفق أطراف الحوار للوصول إلى الحق؛ لأن القصد الأول من الحوار هو معرفة الحق.
ولذلك -أيها الإخوة- لابد أن يوطن أطراف الحوار أنفسهم على قبول الحق من أي الأطراف جاء، فإذا تبين الحق فلا يجوز الجدال فيه: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ} [الأنفال:6] ويجب المصير إليه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل الحق ولو جاء من عدو، وقد روت طفيلة بنت صيفي الجهنية قالت: (أتى حبرٌ من الأحبار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! نعم القوم أنتم لولا أنكم تشركون، فقال صلى الله عليه وسلم: سبحان الله! وما ذاك؟ قال: تقولون إذا حلفتم: والكعبة، قالت: فأمهل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً ثم قال: إنه قد قال: فمن حلف فليحلف برب الكعبة، قال: يا محمد! نعم القوم أنتم لولا أنكم تجعلون لله نداً، قال: سبحان الله! وما ذاك؟ قال: تقولون: ما شاء الله وشئت، قالت: فأمهل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً ثم قال: إنه قد قال حقاً فمن قال: ما شاء الله فليفصل بينهما بقوله ثم شئت) رواه الإمام أحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي وكذلك صححه الألباني في السلسلة الصحيحة.
ومعروفٌ أيضاً قصة أبي هريرة رضي الله عنه مع الشيطان الذي جاء بصورة رجلٍ يسرق الطعام من مال الزكاة، فأمسكه ثم أطلقه حتى قال له في الثالثة: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: دعني وأعلمك كلماتٍ ينفعك الله بها، قلت: وما هن؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] فإنه لا يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطانٌ حتى تصبح، قال أبو هريرة: فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك وأخبره بالخبر، فقال عليه الصلاة والسلام: أمَا إنه قد صدقك وهو كذوب).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: والله قد أمرنا ألا نقول عليه إلا الحق وألا نقول عليه إلا بعلم، وأمرنا بالعدل والقسط، فلا يجوز إذا قال يهوديٌ أو نصرانيٌ فضلاً عن الرافضي قولاً فيه أي حق لا نقبله، ولا يجوز أن نرفضه؛ لأنه جاء من عدو، ولذلك ينبغي في الحوار سماع كلام الخصم، وتقبل الحق الذي جاء منه بقبول حسن، والاعتراف بالخطأ والتسليم بالحق الذي يظهره الخصم، والمسألة كما ترون -أيها الإخوة- مسألة تجرد، فمن تجرد لله وفقه الله.
ثم من آداب الحوار المهمة ألا يكون قصد المحاور الانتصار للنفس، والعلو على المحاورين الآخرين، أو إفحام الخصم واستعراض القوة، وقد تقدم الكلام على ذلك، ومن أهم أسباب الانتصار للنفس أن المحاور يرجو في حواره مع غيره أن يرفع كفته، أو كفة شيخه أو مذهبه أو طائفته وحزبه وجماعته، ويغفل على أن ظهور الحق على يديه أو على يد صاحبه خيرٌ له وفضلٌ عليه من الله تعالى، قال الجويني رحمه الله: فأول شيءٍ على المناظر أن يقصد التقرب إلى الله سبحانه، ويطلب مرضاته في امتثال أمره سبحانه وتعالى فيما أمر به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعاء إلى الحق، ويتقي الله أن يقصد بنظره أو بمناظرته المباهاة وطلب الجاه، والمماراة والرياء، ويحذر أليم عقاب الله، ولا يكون قصده الظفر بالخصم، والسرور بالغلبة والقهر، فإنه من دأب الأنعام الفحولة كالكباش والديكة.
والإنسان إذا كان قصده بالحوار أن يتغلب على خصمه فقط فإنه لا يرعوي عن إتيانه بأي حجة من حقٍ أو باطل، ولا يقبل الحق إذا جاء من الخصم، وكذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما عرَّف الكبر قال: (الكبر بطر الحق وغمط الناس) فبطر الحق أي: رده، وغمط الناس: ظلمهم وعدم إعطائهم حقوقهم وبخسهم إياها، وهو عين الكبر، ولذلك لابد في الحوار من التواضع، والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (ما من آدمي إلا في رأسه حكمةٌ في يد ملك) طبعاً هذا شيءٌ من الغيب لا نعلمه (فإذا تواضع قيل للملك: ارفع حكمته، فيرفع الله ذكره وشأنه بين الناس، وإذا تكبر قيل للملك: ضع حكمته) رواه الطبراني وحسنه الألباني، وقال عمر بن الخطاب: [إن العبد إذا تواضع لله عز وجل رفع حكمته، وقال: انتعش رفعك الله، فهو في نفسه حقير وفي أعين الناس كبير، فإذا تكبر وعد صوره ووهصه، أي: ضرب به الأرض]