وابتدئت للنفاد، وشفع كونها بالفساد، وإن الثاوي بها راحل، والأيام فيها مراحل. موهوب الدنيا مسلوب، وإن أرجئ إلى مهل، وممدودها محروب، وإن أخر إلى أجل. لو خلد من سبق لما وسعت الأرض من لحق، ولذلك جعلت الدار الأولى منزل قلعة، ومحل نجعة، ومجازاً إلى أخرى تزيد، ولا تبيد. خيرها عتيد، وعمرها تأبيد. نحن في الدنيا على وفاز، ومجاز وحذار وانتظار. الحازم من لم يفرح بمواهبها، ولم يتضاءل لنوائبها، ولم ير شياكلها كذا إلا كالخيال الملم، والفيء المنتقل، والعارية المرتجعة، والسحائب المتقشعة، ما تصنع بهذه الغدارة الغرارة؟ وهي ترتجع أعز ما تعطي، وتنتزع أحب ما تولي. قد تنكرت الدنيا حتى صار الموت أخف خطوبها، واصغر ذنوبها فلينظر المرء يمنة هل يرى إلا محنة؟ ثم ليعطف يسرة هل يرى إلا حسرة؟
الأمر بالصبر والنهي عن الجزع
لو كان في الجزع فضل لما تقدمت فيه ذوات الحجول والحجال، على الفحول من الرجال. ما تضع والقضاء نازل، والموت حكم شامل، وإن لم نلذ بعصمة الصبر، فقد اعترضنا على مالك الأمر. اعلم أن الجزع للرب مسخطة، وللأجر محبطة. عليك عزيمة الصبر، وصريمة الجلد، فإنهما في العين حتم، وفي الرأي حزم، وليس في خلافهما للحي انتفاع، ولا للميت ارتجاع. اعلم أن المتوفي لا ترده نار تلهبها من الهم على كبدك، ولا يرجعه انزعاج تسلطه بالحزن على جسدك، وخير لك من ذلك أن تفعل ما يفعله الذاكرون، وتقول إنا لله وإنا إليه راجعون. أنت تعلم أن شوائب الدهر لا تدفع إلا بعزائم الصبر. اجعل بين هذه اللوعة الغالبة، والدمعة الساكبة، حاجباً من فضلك، وحاجزاً من عقلك، ومانعاً من يقينك. أنت أعرف بالدهر ومصارفه، والزمان ومخاوفه، من أن تدع التماسك وهو مرجع اللبيب ومثواه،