فلم يكن الصحابة ولا التابعون -رضي الله عنهم- في حاجة إلى معرفة القواعد والضوابط التي عرفت -فيما بعد- بأصول الفقه والاستنباط، لأنها كانت -كما قلت- مركوزة في أذهانهم وسجية لهم، فكانوا يعرفون الخاص والعام الذي أريد به العموم، والعام الذي يراد به الخصوص، والمطلق والمقيد، والمشترك والمفرد، والناسخ والمنسوخ، وما إلى ذلك من القواعد التي تدرس في هذا العلم.

أما بعد أن طال الزمن، وفسد اللسان العربي، نتيجة لاتساع البلاد الإسلامية، واختلاط الأعاجم بالعرب، وجدّت حوادث ووقائع كثيرة، وكثر الاجتهاد والمجتهدون، واختلفت طرقهم في الاستنباط، وظهر في الأفق الاتجاهان المعروفان باتجاه أهل الحديث بالحجاز، واتجاه أهل الرأي بالعراق، وأسرف كل فريق في الطعن على الفريق الآخر، فعاب أهل الرأي على أهل الحديث الإكثار من الرواية التي هي مظنة لقلة الفهم والتدبر، كما عاب أهل الحديث على أهل الرأي بأنهم يأخدون في دينهم بالظن، ويحكمون العقل في الدين1، فلما اتسع النزاع بين المدرستين المذكورتين، أرسل الإمام عبد الر حمن بن مهدي -عالم الحديث بالمدينة المنورة المتوفى سنة "198هـ"- إلى الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- يطلب منه وضع قواعد يحتكم إليها، وأسس يسير عليها العلماء في اجتهادهم، وكيف يتعاملون مع الأدلة الشرعية، فأجابه الإمام الشافعي، وبعث إليه بهذه القواعد، والتي عرفت فيما بعد باسم "الرسالة".

طور بواسطة نورين ميديا © 2015