فجمعت هذه الآيات بين الوعيد والوعد، والترغيب والترهيب، والإنذار والتبشير، وصار فيها استطراد من شيء إلى شيء، وإخبار بمغيّب يعد مغيّب، متناسقةٌ تناسق اللآلئ في عقودها، متضمنة اتضاح الدّراري في مطالع سعودها، معلمة صدق من أتى بها، وهو ما قرأ الكتب ولا دارس، ولا رحل، ولا عاشر الأحبار ولا مارس {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى} [النجم: 3 - 4] صلى الله وسلّم عليه، وأوصل أزكى تحية إليه.
اللطيفة الثالثة: قَوله تعالى: {نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب كتاب الله وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ} التعبيرُ بالنبذ وراء الظهور، فيه زيادة تشنيع وتقبيح على اليهود، حيث تركوا العمل بكتاب الله، وأعرضوا عنه بالكلّية، شأن المستخف بالشيء، المستهزئ به، وتمسكوا بأساطير من فنون السحر والشعوذة.
يقول سيّد قطب رَحِمَهُ اللَّهُ: «والذين أوتوا الكتاب هم الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، والمقصودُ طبعاً أنهم جحدوه وتركوا العمل به، ولكنّ التعبير المصوّر ينقل المعنى من دائرة الذهن، إلى دائرة الحسن، ويمثّل عملهم بحركةٍ مادية متخيّلة، تصوّر هذا التصرف تصويراً بشعاً زرياً، ينضح بالكنود والجحود، ويتسّم بالغلظة والحماقة، ويفيض بسوء الأدب والقحة، ويدع الخيال يتملّى هذه الحركة العنيفة، حركة الأيدي تنبذ كتاب الله وراء الظهور» .
اللطيفة الرابعة: وجه المقارنة بين ذكر {الشياطين} و {السحر} في الآية الكريمة، هو أنّ السحر فيه استعانة بأرواح خبيثةٍ شرّيرة من الجن، والشياطينُ تزعم أنها تعلم الغيب وتوهم الناس بذلك، وقد كان بعض الناس يصدّقونهم فيما يزعمون، ويلجأون إليهم عند الكرب كما قال تعالى: