حَتَّى قال مرة في بحث جرى بينهما: قال مالك، فقال أبو البقاء: البحث مع مالك! فعظم ذَلِكَ عَلَى الإِخنائي، وقال: لو غيرك قالها، وبلغ كبار المالكية ذَلِكَ فأعظموه وأطلقوا ألسنتهم فِي أبي البقاء.
واتفق أن أبا البقاء كَانَ يتصلب فِي الأحكام ولا يحابي أحداً من كبار الدولة فيما يتصل بِهِ من الأحكام، فاتفق أن الأشرف أراده أن يبتاع بيت كتبغا وهو وقف، فالتمس من أبي البقاء إعمال الحيلة فِي تبطيل وقفيتها فلم يجب لذلك، فعاوده فِي ذَلِكَ فأصر، فمضى عَلَى ذَلِكَ مدة. فاتفق أنه خرج من الموكب، ودخل السلطان داخل القصر وأمر بدره فلما رآه قال لَهُ: يَا قاضي، لأي معنى أسألك فِي شيء لا مشقة عَلَيْكَ فِيهِ فلا تفعل! فأجابه بغلظة: اسمع يَا مولانا السلطان، إن كنت مَا تعرفني فأنا أعرفك نفسي، والله الَّذِي لا إله إِلاَّ هو لو علمت أحداً يصلح القضاء فِي هَذَا العصر غيري مَا توليت وخرج مغضباً بغير سلام، فوجد من كَانَ فِي نفسه من أبي البقاء من أكابر الدولة الطريق إِلَى الوقيعة فِيهِ، فتكلموا مع السلطان فِي عزله، وتولية برهان الدين خطيب القدس، وبالغ بعضهم فِي وصفه.
فلما جاء الموكب الآخر خرج القضاة فجلسوا فِي الجامع عَلَى عادتهم إذ ذَاكَ، فدخل رجل فأطبق دواة القاضي أبي البقاء، وقال لَهُ: السلطان يأمرك أن تلوم بيتك، فصُرف عن القضاء فِي خامس جمادى الآخرة سنة ثلاث وسبعين ووقع الترسيم عَلَى أمنائه وحاشيته.
واستقر البرهان ابن جماعة فِي الولاية، وخلع عَلَيْهِ، ونزل القاهرة فِي موكب عظيم إِلَى الغاية ما عهد نظيره بعد أن شرط شروطاً كثيرة أجيب إِلَيْهَا، فلما كَانَ فِي العشر الأخير من رجب أمر بإخراج أبي البقاء إِلَى الشام، فوصل إِلَى بلبيس ثُمَّ رفع إِلَيْهِ أن فِي جهته مالاً من المودع، فكشف عن ذَلِكَ فوجد الخلل من أمين الحكم، وَكَانَ يسمى إسحاق وَكَانَ قاصراً فِي الحساب، فدخل عَلَيْهِ الدخيل فقيل لأبي البقاء مَا جرى، فاستدعى بِهِ وسأله عن ذَلِكَ. وقال لَهُ: غررتني بتعويج رقبتك وسَدْل كمِّك وتشبهك بالكتّاب وأنت لا تحسن شيئاً! ثُمَّ قال لَهُ: أخبِرْني، هل فِي جهتي من هَذَا المال شيء؟ قال: لا والله. قال: فما الحيلة؟ قال: يتفضل مولانا ويساعدني عَلَى الغرامة. فقال: أنا أغرم مَا تضيعه! إن هَذَا لا يكون وسعي القاضي فِي براءة نفسه، وساعده جماعة من الأكابر عَلَى ذَلِكَ لِمَا