لو أمعنت النظر لوجدت أن في القراءات المتخالفة نواحي من السمو في البلاغة، ألا ترى مثلا اختلاف القراءة في قوله تعالى: "بِكُلّ سَحِرٍ" في الأعراف وفي يونس، وقد رسمت فيها بغير ألف1, فقرأ حمزة والكسائي وخلف: "سحَّار" على وزن فعّال في الموضعين، وقرأ الباقون في السورتين: {سَاحِرٍ} على وزن فاعل2، واتفقوا على حرف الشعراء أنه {سَحَّارٍ} 3 -رسمت الألف بعد الحاء في الشعراء- واختلافهم في الأعراف ويونس، واتفاقهم على التي في الشعر أمر يقتضيه المقام -دع ما يشير إليه الرسم-؛ لأنه في الشعراء جواب لقول فرعون فيما استشارهم فيه من أمر موسى بعد قوله: {إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} فأجابوه بما هو أبلغ من قوله رعاية لمراده، بخلاف التي في الأعراف، فإن ذلك جواب لقولهم، فتناسب اللفظان. وأما التي في يونس, فهي أيضا جواب من فرعون لهم حيث قالوا: {إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ} فرفع مقامه عن المبالغة4.
وللأستاذ المرحوم مصطفى صادق الرافعي رأي يشبه ذلك، وهو ما ألحقه بمعاني الإعجاز؛ إذ تكون الألفاظ في اختلاف بعض صورها مما يتهيأ معه استنباط حكم، أو تحقيق معنى من معاني الشريعة؛ ولذا كانت القراءات من حجة الفقهاء في الاستنباط والاجتهاد. وهذا المعنى مما انفرد به القرآن الكريم، ثم هو ما لا يستطيعه لغوي أو بياني في تصوير خيال, فضلا عن تقرير شريعة5، وهيهات أن يكون شيء من ذلك إذا كانت القراءات تابعة لخاصية الخط العربي في خلوه من النقط والشكل!! أكان الاختلاف من أجل الرسم يتضمن هذه البلاغة حين يتفقون وحين يختلفون؟! فكيف نسلك سبيل المتحاملين على الإسلام، ونشايعهم في آرائهم من غير تدقيق في النظر, أو إحكام؟