تكن تشتغل في الواقع العمليّ كما تشتغل على الصعيد النظريّ البحت، مثلها مثل الكثير من المفهومات السائدة الأخرى. هذا ما تبرهنه الهجرة واسعة النطاق من طرف جغرافيين وعلماء فلك هنود، وخزّافين صينيين وغيرهم، قادمين كلّهم من دار الكفر (الهند) و (الصين) للإقامة في (دار الإسلام) ، بغداد العباسية. بإمكاننا الآن تعداد العشرات من أسمائهم. المخطط الذي يبني عليه البعض تحليلاتهم المعاصرة، بشأن هذه الثنائية، يبقى من طبيعة تلفيقيّة محض.
على العكس من ذلك يبدو ابن فضلان وصحبه، وهو في موقف الواثق، إلى درجة كان يأمر بها وينهي ملك الصقالبة نفسه: «وبدأت فقرأت صدر الكتاب فلمّا بلغت منه «سلام عليك فإنّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو» ، قلت: ردّ على أمير المؤمنين السلام، فردّ وردّوا جميعا بأسرهم» . وثوق قادم من ترسّخ وقوة الحضارة الإسلاميّة في العالم القديم. ومثلما لا يشعر الإمريكيّ اليوم بالهيبة من حضور الآخر، فلم يكن العربيّ والمسلم ليعانيان من هذا الشعور.
تغدو العواصم الغنيّة الكبرى، في لحظات الازدهار الحضاريّ، محطات لقادمين من مختلف أصقاع العالم يبحثون عن لقمة العيش. إنّ تجمّع الثروات في بقعة ما يعني من بين ما يعني، أنّ تلك العواصم قد صارت موطنا لتجمّع كميات كبيرة من الذهب. وهو ما نراه في عواصم الأرض اليوم: فرنسا، ألمانيا، الولايات المتحدة الإمريكية، سويسرا.. إلخ التي تستقطب المزيد من المهاجرين من مختلف التخصّصات. إنّ القاعدة العامة في التاريخ الاقتصاديّ هي أن هجرة الأيدي العاملة تتابع مراكز انتقال الذهب: رمز الثروة. هذا هو حال بغداد في العصور العباسيّة المزدهرة التي كان وضعها يشابه تماما العواصم الثريّة في وقتنا الحالي. يشابهه تماما حتّى بالتفصيلات الأكثر دقّة. فإنّ وجود تجمّعات وأسواق لجاليات أجنبية مثل الهنود والصينيين والعرب في فرنسا ونيويورك اليوم كان له مثيل في (سوق خضر) لباعة وصنّاع الخزف والغضار الصينيّ في بغداد العباسيّة، وفي الأعداد المتزايدة من الهنود المشتغلين في حقول التنجيم والرياضيات، والبيزنطيين المشتغلين في حقول