يخيل إلينا أن سفيرا مبعوثا إلى أقاصي الأرض كان يجب أن يمتلك الكثير من الحكمة والحنكة، لذلك نظنّ أنّه كان في الأربعينات من عمره عندما كلّف بمهمّته.
ويخيّل إلينا أنّ بعثة مثل بعثته كانت تستلزم رجلا ذا ثقافة معقولة، وهو ما نظنّ حاله، وهو ما يدلّ عليه وصفه المتأنّي للبلدان والتقاليد التي شاهدها عيانا. ونعتقد أن هيئته وبزّته كانتا في غاية الرصانة، وأنّه اختير لمقابلة ملوك الصقالبة والخزر والروس لأنّ شكله كان مقبولا بالنسبة إليهم وقريبا من أشكال الشعوب التي زارها.
لم يرد توثيق لحياة ابن فضلان في أيّ من المراجع التي بين أيدينا، بالضّبط مثلما لا توجد إلا أقلّ التفصيلات عن حياة المقدسيّ صاحب (أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم) الباهر ولا حياة الرحالة أبي دلف. وفي ذلك إشارة واضحة الآن إلى اللامبالاة التي كانت تميّز نظرة الثقافة العربية إلى أعمال الرحالة العرب، وعدم اعتبار الكتابة في أدب الرحلة فنا رفيع المستوى يستحقّ إدراج مؤلفيه من بين مصنّفي ضروب الأدب الأخرى المبجّلين والمؤرّخ لهم بأكثر التفاصيل وأدقّها (الفقهاء، الشعراء، الأطباء، النحويين.. إلخ) .
تقع أهميّة رحلة ابن فضلان في أنّها تزوّد التاريخ العالميّ بشذرات مهمّة عن أنماط معيشة شعوب قلّما سجلت. إنّها تسدّ ثغرة تاريخية في هذا المجال وتعتبر رائدا في الإشارة لتاريخ الشعوب الصربيّة، والروس منهم على وجه الخصوص.
لقد قيل الكثير عن هذه الرحلة وترجمت أكثر من مرة لجميع اللغات الأساسيّة اليوم في العالم. ونودّ هنا أن نشير إلى أمرين اثنين:
لا تبدو علاقة العالم العربيّ، أو أقلّها ثقافة الناطقين باللغة العربية من عرب وغير عرب ممّن كانوا يستخدمون العربية في حضارة كانت هذه اللغة بها شيئا ساميا وضروريا، بمثل استلابها هذا اليوم مع الآخر، وهو ما تبرهنه رحلة ابن فضلان. لم يكن الاختلاف البديهيّ بين الأنا والآخر ليتصاعد إلى المستوى الموصوف في كتابات البعض من الباحثين العرب المعاصرين ممّن يصفون العلاقة مع الحضارات الأخرى بمنطق الحذر والرّيبة، بل إنّ ثنائية نهائية ومطلقة بين (دار الإسلام) و (دار الكفر) لم