لعظمهم وشدة بأسهم، ولعزة ملكهم وكثرة شأوهم وخنزوانية «1» سلطانهم، يجعلون بإزاء هذه المحقرات نحاسا يضربون منه قطعا صغارا تسمى فلوسا «2» لشراء ذلك، ولا يكاد يوجد منها إلا اليسير، ومع ذلك فإنها لم تقم أبدا في شىء من هذه الأقاليم، بمنزلة أحد النقدين قط.
وقد كانت الأمم في الإسلام وقبله، لهم أشياء يتعاملون بها بدل الفلوس كالبيض والكسر من الخبز والورق ولحاء «3» الشجر والودع «4» الذى يستخرج من البحر ويقال له: الكورى وغير ذلك.
وقد استقصيت ذكره في كتاب (إغاثة الأمة بكشف الغمّة) وكانت الفلوس لا يشترى بها شىء من الأمور الجليلة وإنما هى لنفقات الدور، ومن أنعم النظر «5» فى أخبار الخليفة عرف ما كان الناس فيه بمصر والشام والعراق من رخاء الأسعار، فيصرف الواحد العدد اليسير من الفلوس في كفاية يومه.
فلما كانت أيام محمود بن على، أستادار الملك الظاهر برقوق، استكثر من الفلوس، وصارت الفرنج تحمل النحاس الأحمر رغبة في فائدته، واشتهر الضرب فى الفلوس عدة أعوام والفرنج تأخذ ما بمصر من الدراهم إلى بلادهم، وأهل البلد تسبكها، لطلب الفائدة حتى عزّت وكادت تفقد، وراجت الفلوس رواجا عظيما حتى نسب إليها سائر المبيعات وصار يقال: كل دينار بكذا من الفلوس.
وتالله، إن هذا الشىء يستحيا من ذكره لما فيه من عكس الحقائق إلا أن الناس لطول تمرنهم عليه ألفوه، إذ هم أبناء العوائد، وإلا فهو في غاية القبح، والمرجو أن يزيل الله عن بلاد مصر هذا العار، بحسن السفارة الكريمة، أرجو إن شاء الله تعالى أن يكون الأمر فيه هينا، وذلك أن ينظر إلى النحاس الأحمر القرص المجلوب من بلاد الفرنج كم سعر القنطار منه، ويضاف إلى ثمن القنطار جملة ما يصرف عليه بدار الضرب إلى أن يصير فلوسا، فإذا جمل ذلك عرف كم يصرف لكل دينار