تؤخذ المقدمات أخذا صحيحا بأن تنظر النفس في ضم طباع الأشياء بعضها إلى بعض حتى يقوم مرادها فيما تريد علمه وهذا الذكر مبثوث (?) في الحيوان. والحيوان قد يتفاضل فيه: فمن الحيوان ما يميز ربه ويذكر عليه (?) وإن غاب عنه، ويهش إليه إذا قدم عليه؛ وأقواها في ذلك الفيل والكلب والقرد والدب ثم السنور؛ ومن الحيوان ما يذكر ذكرا دون ذلك كالفرس والبعير؛ ومن الحيوان سائر ما ذكرنا لا يذكر شيئا من ذلك كالديك وغيره.
واعلم أن العقل والحس والظن والتخيل قوى من قوى النفس. وأما الفكر فهو حكم النفس فيما أدت إليها هذه القوى وأما الذكر فهو تمثل النفس لما أدته إليها هذه القوى فتجد النفس إذا افتقدت بالنسيان شيئا مما اختزنته تتطلبه وتفتشه في مذكوراتها بالفكر كما يفتش رب المتاع متاعه إذا أتلفه أو اختلط له بين أمتعة شتى، فيبحث عنه في وجه وجه ومكان مكان حتى يجده فيؤوب (?) إليه، أولا يجده أصلا. وهكذا النفس سواء سواء، فسبحانه مدبر كل ذلك ومخترعه لا إله إلا هو. وليس في القوى التي (?) ذكرنا شيء [80ظ] يوثق به أبدا على كل حال غير العقل فبه تميز مدركات الحواس السليمة والمدخولة (?) بالمرض وشبهه، كوجود العليل طعم العسل مرا كالعلقم، والعقل يشهد بالشهادة الصحيحة الصادقة أنه حلو، وكما ترى الشيء في الماء بخلاف شكله الذي يشهد العقل أنه شكله على الحقيقة. وأما الظن فأكذب دليل لأنه يصور لك الرجل الضخم المتسلح شجاعا ولعله غاية في الجبن، ويصور لك المتفاوت الطلعة بليدا ولعله غاية في الذكاء. وقد نبه الله تعالى على هذا فقال: {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} (الحج: 46) . فأخبر عز وجل أن الحواس تبع للعقل، وأن ذا العقل الذي يغلب هواه عليه لا ينتفع بما أدركت حواسه؛ وقال تعالى {إن بعض