منازلها البهية المأنوسة، ولما دخلتها وجدتها بديعة الأوصاف، مخضرة الجوانب والأكناف، بها الجوامع الجامعة للمحاسن، والمدارس الحافلة بالمكانة والأماكن، ورأيت أهلها أرقّ أخلاقاً من النسيم، وألطف شمائلاً من الشَمول والشميم، إلا ما شاء من الأوغاد وجبابرة العباد، ورأيت لهم الذكاء المتوقد، والذوق المتجدد، مع كمال الجَدِّ في الجِدِّ والإجتهاد، وبذل النفوس النفيسة في تحصيل المراد، فلله دَرَّهم، ولا زال يزداد ويزدان بهم بِرّهم وبَرّهم، فلقد تحقق بهم صدق القائل:
قل للذي سار بلاد الورى ... وأظهر القوّة والباسا
مَنْ لا رأى مصراً ولا أهلها ... فما رأى الدنيا ولا الناسا
وما أصدق من قال:
ما مصر إلا بلدة ما مثلها ... غريبها يرتع في نعيمها
نسيمها ألطف شيءٍ في الورى ... وأهلها ألطف من نسيمها
ثم أقمت بها برهة من الأيام، صحبة الأخلاء الكرام، أطوف بأكنافها البهية، وألوي على أعكانها الشهية:
بالسفح حيناً وبالبقعاء آونة ... وبالكثيب زماناً والأثيلات
ثم لم أزل أتعهد الجامع الأزهر، وأتردد على كلّ درس فيه أوضح تقريراً من الشمس وأنور، وأحاول النفس على أن استزيد عِلماً، فيعاجلني من مضض الأيام ما يربو على خَطْب الدهر هماً وغماً، وأجد الفهم لذلك كليلاً، والقلب سقيماً عليلاً، والشروط غير متوفرة، والدواعي متعذرة أو متعسرة، كيف لا وقد قيل: لو كلفت بصلة ما حفظت مسألة وأنى يكون ذلك مع اشتغال البال، واشتعال البلبال: