وكذاك الإنسان ما دام حيا ... فهو في لذة وفي آلامِ
ولما أقبل الليل، وقد أوهى القوى والحَيْل، انقطع كثير من الرجال، وتفرّق شمل تلك الرحال، حتى أن كثيراً من الناس ألقى أكثر أسبابه، حيث لم يجد له مساعداً
في حملها من أصحابه، وأخذ الفناء ينحر في الجمال، والعيّ يهدم قوى الرجال، ولم نزل في هذه الشدّة شدة واحدة إلى ما بعد الزوال.
فمررنا بصدفة (البُوَيْب) وهو مضيق بين جبلين صغيرين، وله شرفة، وبه تل رمل مستطيل، وفيه يقول ابن أبي حجلة:
ولما اعتنقنا للوداع عشية ... على بركة الحجاج والدمعُ يُسْكَبُ
فرِحنا وقد جُزنا البويب لأنَّه ... إلى وصل من نهواه باب مُجرّبُ
وعلى ذكر الاعتناق فما أحسن قول القائل:
ولما اعتنقنا للوداع عشية ... وفي القلب نيرانٌ لفرط غليلهِ
بكيت وهل يغنى البكاء لهائم ... إذا غاب عن عينيه وجهُ خليلهِ
ثم بتنا على شاطئ نيل البركة، الذي أحاطت به البركة، وأنخنا بها الركاب، وراق لنا الوقت والزمان وطاب، وقد استقر الخاطر من قلق السفر، وتهلل وجه الزمان وأسفر، وأنشد لسان التمني في هذه المفاوضة، لو سلم من المعارضة:
فألقتْ عصاها واستقرّ بها النوى ... كما قرّ عيناً بالإياب المسافرُ
وعلى ذكر البركة فما أبدع هذا التشبيه:
وبركة للعيون تبدو ... في غاية الحسن والبهاءِ
كأنَّها إذ صفت وراقت ... في الأرض جزء من السماءِ
وقال آخر:
وبركة ما تملك العينُ وصفها ... يحف بها نبت من الروض مزهرُ
ويسرح منها في الخمائل جدولٌ ... كما سُلّ من غمدٍ حسامٌ مجوهرُ
ولما أسفر الصباح ثامن عشر صفر الخير، توجهنا إلى مصر المحروسة، وشاهدنا