من الشيئين على وجود الآخر، وإذا كان الجفاء بسبب وجود الشيب، فالشيب متقدم على الجفا، وإذا كان كذلك فكيف يجعل الشيب بسبب وجود الجفاء؟ فتأمله فإنه خفي ظاهر، اللهم إلا أن يقال إن الدور على مجرّد الدعوى، وفي هذا المقام لا يتعين تقدم شيء على شيء، وما ألطف ما قال:
ما ازددت في حبِّ من شغفتُ به ... إلا غراماُ عليه أو وَلَها
وعشقتي في هواه دائرة ... آخرها لا يزال أوّلها
وحكى السيوطي في تاريخه: لما كان سنة 582 إجتمعت الكواكب الستة في برج الميزان، فحكم المنجمون بخراب العالم في جميع البلاد بطوفان الريح، فشرع الناس في حفر مغارات في التخوم، وسدوا منافذها ونقلوا إليها الماء والزاد، وانتقلوا إليها وأقاموا ينتظرون تلك الليلة التي وعدوا فيها بالريح، وهي الليلة التاسعة من جُمادى الآخرة من هذه السنة، فلم يأت فيها شيء من الريح، بل ولا هبّ نسيم، بحيث أوقدت الشموع بين يدي السلطان صلاح الدين فلم يتحرك لها أصلاً، وعملت الشعراء في وصف هذه الحادثة:
كلام المنجم في لفظه ... يحلّ لدينا محلَ الحدثْ
يخبّر عن حادثات السما ... ويجهل في بيته ما حدثْ
وقال آخر:
أحُسَّاب النجومِ أحلتمونا ... على علم أدقّ من الهباءِ
علوم الأرض لم تصلوا إليها ... فكيفَ بكم إلى علم السماءِ
ويعجبني قول أبي الغنائم محمد بن المعلم الواسطي:
قل لأبي الفضل قولَ معترفٍ ... مضى جُمادى وجاءنا رجب
ولا جرت زَعْزَعاً كما حكموا ... ولا بدا كوكب له ذنب
كلا ولا أظلمت ذُكاء ولا ... بدت إذا في قرانها الشهب
يقضي عليها من ليس يعلم ما ... يقضي عليه هذا هو العجب