رحله ابن خلدون (صفحة 209)

المبدأة المعادة لياليه وأيامه، لما أوسع الدين والملك نظراً جميلاً من عنايته، وأنام الخلق في حجر كفالته، ومهاد كفايته، وأيقظ لتفقد الأمور، وصلاح الخاصة والجمهور، عين كلاءته، كما قلده الله رعايته وأقام حكام الشريعة والسياسة يوسعون نطاق الحق إلى غايته، ويطلعون وجه العدل سافراً عن آيته. ونصب في دست النيابة من وثق بعدله وسياسته، ورضي الدين بحسن إيالته، وأمنه على سلطانه ودولته، وهو الوفي - والحمد لله - بأمانته، ثم صرف نظره إلى بيوت الله معنى بإنشائها وتأسيسها، ويعمل النظر الجميل في إشادتها وتقديسها، ويقرض الله القرض الحسن في وقفها وتحبيسها وينصب فيها لبث العلم من يؤهله لوظائفها ودروسها، فيضفي عليه بذلك من العناية أفخر لبوسها، حتى زهت الدولة بملكها ومصرها، وفاخرت الأنام بزمانها الزاهر وعصرها. وخضعت الأواوين لإيوانها العالي وقصرها، فابتهج العالم سروراً بمكانها، واهتزت الأكوان للمفاخرة بشأنها، وتكفل الرحمن، لمن اعتز به الإيمان، وصلح على يده الزمان، بوفور المثوبة ورجحانها.

وكان مما قد من به الآن تدريس الحديث بهذه المدرسة وقف الأمير صرغتمش من سلف أمراء الترك، خفف الله حسابه وثقل في الميزان - يوم يعرض على الرحمن - كتابه، وأعظم جزاءه في هذه الصدقة الجارية وثوابه، عناية جدد لي لباسها، وإيثاراً بالنعمة التي صححت قياسها، وعرفت منه أنواعها وأجناسها، فامتثلت المرسوم، وانطلقت أقيم الرسوم، وأشكر من الله وسلطانه الحظ المقسوم. وأنا مع هذا معترف بالقصور، بين أهل العصور، مستعيذ بالله وبركة هؤلاء الحضور، السادة الصدور، أن يجمح بي مركب الغرور، أو يلج شيطان الدعوى والزور، في شيء من الأمور. والله تعالى ينفع مولانا السلطان بصالح أعماله، ويعرفه الحسنى وزيادة الحظ الأسنى في عاقبته ومآله، ويريه في سلطانه وبنيه وحاشيته وذويه قرة عينه ورضى آماله، ويديم على السادة الأمراء ما خولهم من رضاه وإقباله، ويحفظ المسلمين في هذا الأمر السعيد بدوامه واتصاله، ويسدد قضاتهم وحكامهم لاعتماد الحق واعتماله بمن الله وإفضاله.

وقد رأيت أن أقرر للقراءة في هذا الدرس، كتاب الموطأ للإمام مالك بن أنس، رضي الله عنه، فإنه من أصول السنن، وأمهات الحديث، وهو مع ذلك أصل مذهبنا الذي عليه مدار مسائله، ومناط أحكامه، وإلى آثاره يرجع الكثير من فقهه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015