إشراف العمر على التمام، وعواقب الاستغراق، وسيرة الفضلاء عند شمول البياض، فغلبته حال شديدة هزمت التعشق بالشمل الجميع، والوطن المليح، والجاه الكبير، والسلطان القليل النظير، وعمل بمقتضى قوله: موتوا قبل أن تموتوا. فإن صحت هذه الحال المرجو من إمداد الله، تنقلت الأقدام إلى أمام، وقوي التعلق
بعروة الله الوثقى، وإن وقع العجز، وافتضح العزم، فالله يعاملنا بلطفه. وهذا المرتكب مرام صعب، لكن سهله علي أمور: منها أن الانصراف لما لم يكن منه بد، لم يتعين على غير هذه الصورة، إذ كان عندكم من باب المحال. ومنها أن مولاي لو سمح لي في غرض الانصراف، لم تكن لي قدرة على موقف وداعه، لا والله! ولكان الموت أسبق إلي، وكفى بهذه الوسيلة الحبية - التي يعرفها - وسيلة. ومنها حرصي على أن يظهر صدق دعواي فيما كنت أهتف به، وأظن أني لا أصدق. ومنها اغتنام المفارقة في زمن الأمان، والهدنة الطويلة، والاستغناء، إذ كان الانصراف المفروض ضرورياً قبيحاً في غير هذه الحال. ومنها - وهو أقوى الأعذار - إنني مهما لم أطق تمام هذا الأمر، أو ضاق ذرعي به، لعجز، أو مرض، أو خوف طريق، أو نفاد زاد، أو شوق غالب، رجعت رجوع الأب الشفيق، إلى الولد البر الرضي، إذ لم أخلف ورائي مانعاً من الرجوع، من قول قبيح أو فعل، بل خلفت الوسائل المرعية، والآثار الخالدة، والسير الجميلة، وانصرفت بقصد شريف فقت به أشياخي، وكبار وطني، وأهل طوري، وتركتكم على أتم ما أرضاه، مثنياً عليكم، داعياً لكم. وإن فسح الله في الأمد، وقضى الحاجة، فأملي العودة إلى ولدي وتربتي، وإن قطع الأجل، فأرجو أن أكون ممن وقع أجره على الله.
فإن كان تصرفي صواباً، وجارياً على السداد، فلا يلام من أصاب، وإن كان عن حمق، وفساد عقل، فلا يلام من اختل عقله، وفسد مزاجه، بل يعذر، ويشفق عليه،