وعين لهم ذلك في وجوه تأبدت لهم، فبقيت تلك الرسوم الكريمة ثابتة على حالها الى الآن. فسارت بجميل ذكر هذا الرجل الرّفاق، وملئت ثناء عليه الآفاق.
وكان مدّة حياته بالموصل، على ما اخبرنا به غير واحد من ثقات الحجاج التجار ممن شاهد ذلك، قد اتخذ دار كرامة واسعة الفناء فسيحة الأرجاء يدعو اليها كل يوم الجفلى من الغرباء فيعمهم شبعا وريا، ويرد الصادر والوارد من ابناء السبيل في ظله عيشا هنيئا، لم يزل على ذلك مدة حياته، رحمه الله. فبقيت آثاره مخلدة، واخباره بألسنة الذكر مجددة، وقضى حميدا سعيدا، والذكر الجميل للسعداء حياة باقية، ومدة من العمر ثانية، والله الكفيل بجزاء المحسنين الى عباده، فهو أكرم الكرماء، وأكفل الكفلاء.
ومن الأمور المحظورة في هذا الحرم الشريف، زاده الله تعظيما وتكريما، أن النفقة فيه ممنوعة، لا يجد المتاجر من ذوي اليسار اليها سبيلا في تجديد بناء أو اقامة حطيم أو غير ذلك مما يختص بالحرم المبارك. ولو كان الأمر مباحا في ذلك لجعل الراغبون في نفقات البر من أهل الجدة حيطانه عسجدا وترابه عنبرا، لكنهم لا يجدون السبيل الى ذلك، فمتى ذهب أحد أرباب الدنيا الى تجديد أثر من آثاره او اقامة رسم كريم من رسومه أخذ اذن الخليفة في ذلك. فإن كان مما ينقش عليه أو يرسم فيه طرز باسم الخليفة ونفوذ أمره بعمله ولم يذكر اسم المتولي لذلك. ولا بد مع ذلك من بذل حظ وافر من النفقة لأمير البلد ربما يوازي قدر المنفوق فيه. فتضاعف المؤونة على صاحبه وحينئذ يصل الى غرضه من ذلك.
ومن أغرب ما اتفق لأحد دهاة الأعاجم، ذوي الملك والثراء، أنه وصل الى الحرم الكريم، مدة جدّ هذا الأمير مكثر، فرأى تنور بئر زمزم وقبتها