انا قد ملنا في جرينا الى بر المغرب، وهو بر افريقية، وآخر يزعم: أنا قد ملنا الى بر الأرض الكبيرة، بر القسطنطينية وما يليها، ومنهم من يقوا: الى اللاذقية جهة الشام، ومنهم من يقول: الى دمياط بر الاسكندرية. وكنا نحذر أن تلجئنا الريح الى احدى جزائر الرمانية الخالية، فنشتو فيها، أو تضطرنا الحال الى المعمور منها. وليس في هذه الوجوه المتوقعة كلها وجه فيه حظ لمختار، حتى أتى الله بالفرج، وأذهب الباس والياس، ومكن في النفوس الإيناس، بعد مكابدة الأمرين، ومقاساة البرحين، فلله در القائل:
البحر مرّ المذاق صعب ... لا جعلت حاجتي اليه
أليس ماء ونحن طين ... فما عسى صبرنا عليه
ونحن الآن بفضل الله تعالى نتطلع البشرى بطهور بر صقلية، ان شاء الله.
وفي النصف من ليلة الأحد الحادي عشر منه انقلبت الريح غربية، وكشف النوء من الغرب، وجاءت الريح عاصفة فأخذت بنا جهة الشمال. وأصبحنا يوم الأحد المذكور والهول يزيد، والبحر قد هاج هائجه، وماج مائجه، فرمى بموج كالجبال، يصدم المركب صدمات يتقلب لها على عظمه تقلب الغصن الرطيب، وكان كالسور علوا فيرتفع له الموج ارتفاعا يرمي في وسطه بشآبيب كالوابل المنكسب. فلما جن الليل اشتد تلاطمه، وصكت الآذان غماغمه، واستشرى عصوف الريح. فحطت الشرع، واقتصر على الدلالين الصغار دون انصاف الصواري. ووقع اليأس من الدنيا، وودعنا الحياة بسلام؛ وجاءنا الموج من كل مكان، وظننا أنا قد أحيط بنا، فيا لها ليلة يشيب لها سود الذوائب، مذكورة في ليالي الشوائب، مقدمة في تعداد الحوادث والنوائب! ونحن منها في مثل ليل صول طولا، فأصبحنا ولم نكد. فكان من الاتفاقات الموحشة أن أبصرنا بر إقريطش عن يسارنا، وجباله قد قامت أمامنا، وكنا قد خلفناه عن يميننا، فأسقطتنا الريح عن مجرانا، ونحن نظن أنا قد جزناه. فسقط في أيدينا، وخالفنا المجرى المعهود الميمون، وهو أن يكون البر المذكور منا يمينا، في استقبال صقلية. فاستسلمنا للقدر، وتجرعنا غصص هذا الكدر، وقلنا: