أحوال السرو اليمنيين في دخولهم البيت المبارك على الصفة المتقدمة الذكر، حال تؤدة ووقار بالإضافة الى هؤلاء الاعاجم الاغتام، نفعهم الله بنياتهم، وقد فقد منهم في ذلك المزدحم الشديد من دنا أجله، والله يغفر للجميع.
وربما زاحمهم في تلك الحال بعض نسائهم فيخرجن وقد نضجت جلودهن طبخا في مضيق ذلك المعترك الذي حمي بأنفاس الشوق وطيشه، والله ينفع الجميع بمعتقده وحسن مقصده بعزته.
وفي ليلة الخميس الخامس عشر من الشهر المبارك، اثر صلاة العتمة، نصب منبر الوعظ أمام المقام، فصعد واعظ خراساني حسن الشارة مليح الإشارة، يجمع بين اللسانين عربي وعجمي، فأتى في الحالين بالسحر الحلال من البيان، فصيح المنطق، بارع الالفاظ، ثم يقلب لسانه للأعاجم بلغتهم فيهزهم اطرابا ويذيبهم زفرات وانتحابا.
فلما كانت الليلة الأخرى بعدها وضع منبر آخر خلف حطيم الحنفي، فصعد اثر صلاة العتمة أيضا شيخ أبيض السبال، رائع الجلال، بارع التمام في الفضل والكمال، فصدع بخطبة انتظمت آية الكرسي كلمة كلمة، ثم تصرف في أساليب الوعظ وأفانين من العلم باللسانين أيضا، حرك بها القلوب حتى أطارها واورثها احتداما بالخشية بعد استعارها. وفي اثناء ذلك ترشقه سهام من المسائل فيتلقاها بمجن من الجواب السريع البليغ، فتحار له الالباب، ويملك كل نفس منه الإغراب والإعجاب، فكأنما هو وحي يوحى.
وهذا الذي مشى به وعاظ هذه الجهات المشرقية من القاء المسائل اليهم وافاضة شآبيب الامتحان عليهم من اعجب الامور المعربة عن غريب شأنهم والناطقة بسحر بيانهم. وليست في فن واحد انما هي من فنون شتى. وربما قصد بها التعنيت والتنكيب فيأتون بالجواب كخطفة البرق وارتداد الطرف، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء.
وبين أيدي هؤلاء الوعاظ قرّاء ينغمون بالقراءة فيأتون بألحان تكسب