ولعلّ الزمخشري لم يجد في وطنه ما تتوق إليه نفسه فتوجه ثانية، نحو سنة 516 هـ إلى بيت الله الحرام ليؤدي فريضة الحج وليقضي البقية الباقية من عمره بجوار بيت الله، وفي طريقه إليه نظم قصيدته الرائيّة التي تنضح بالزهد والتقوى والتنسّك والتمسّك بحبل الله فقال من قصيدة:
سيري تماضر حيث شئت وحدّثي ... إني إلى بطحاء مكة سائر
حتى أنيخ وبين أطماري فتىً ... للكعبة البيت الحرام مجاور
والله أكبر رحمةٍ، والله أك ... ثر نعمةٍ، وهو الكريم القادر
يا من يسافر في البلاد منقباً ... إني إلى البلد الحرام مسافر
إن هاجر الإنسان عن أوطانه ... فالله أولى من إليه يهاجر
سأروح بين وفود مكّة وافداً ... حتى إذا صدروا فما أنا صادر
حسبي جوار الله حسبي وحده ... عن كل مفخرةٍ يعدّ الفاخر
لقد استقرّ الزمخشري في مكة يصنف ويؤلف الكتب ويدرسّ بين زمزم والمقام؛ والحقيقة أن هذه المرحلة من حياته تعدّ مرحلة عطاء وإنتاج حيث كتب أشهر مؤلفاته وأنفعها، بعد أن تغيّرت نفسيته الطموحة الحاقدة الثائرة إلى نفس مطمئنة راضية قد انبسط عليها سلطان الدين الإسلامي ونقّى طبيعتها وصفّى مزاجها من كل حقدٍ وغيّ وتهالكٍ على المجد معتبراً نفسه بأنه لم يخلق إلّا للدين الإسلامي ولم يعش إلّا لخدمته، فتحلّق حوله فتيان مكة ورحّب به الأمير أبو الحسن علي بن حمزة بن وهاس ومدّ له يد العون بعد أن عرف قدره، وقصده طلاب العلم من أرجاء العالم الإسلامي يأخذون عنه حتى قال قائلهم:
أمكّة هل تدرين ماذا تضمّنت ... بمقدم جار الله منك الأباطح
به وإليه العلم ينمي وينتهي ... وفيه لأرباب العلوم المناجح
محطّ رحال الفاضلين فلم يزل ... يحطّ إليه الرّحل غاد ورائح
ولكن، على الرغم من الهدوء النفسي، وعلى الرغم من مجاورته بيت الله، وأمنه عاديات الزمن، وما حقّقه من آمال بمكة، بقي الزمخشري