اعْلَمْ أَنَّ الْخَيَالَ الَّذِي وَقَعَ لَكَ مِنْ أَنَّ التَّزَاوُرَ وَالنَّظَرَ يَشْفِي بَعْضَ الْمَرَضِ خَيَالٌ فَاسِدٌ
فَإِنْ قُلْتَ فَأَرَانِي أَسْكُنُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ إِنَّمَا يَسْكُنُ الْوِجْدُ لِمَكَانِ الْقُرْبِ فَإِذَا وَقَعَ الْبُعْدُ زَادَتْ نَارُ الشَّوْقِ اشْتِعَالا فَأَنْتَ فِي ضَرْبِ الْمَثَلِ كَالْعَطْشَانِ شَرِبَ الْخَمْرَ فَإِنَّهُ يَجِدُ رُطُوبَةَ الرَّيِّ عِنْدَ تَجَرُّعِهَا ثُمَّ تُلْهِبُهُ فَتَزِيدُ الْعَطَشَ
فَكَذَلِكَ قُرْبُ الْعَاشِقِ مِنْ مَعْشُوقِهِ يَضُمُّ جُرْحًا إِلَى جُرْحٍ وَعَقْرًا إِلَى عَقْرٍ وَكُلَّمَا زَادَتِ الأَسْبَابُ الظَّاهِرَةُ قَوِيَتِ الْمَحَبَّةُ فِي الآلاتِ الْبَاطِنَةِ فَعَمِلَتْ سُمُومُهَا فِي الْمُقَاتِلِ وَالْمَقْتُولُ لَا يَرَى الْقَاتِلَ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ
قبلتها أشتفى بقبلتها ... فزادني ذَاك ألما ألما
وسائلتني عَنْ مُبْتَدَا سَقَمِي ... مُسْقِمُ جَفْنَيْكَ مُسْقِمِي بِهِمَا وَقَالَ الآخَرُ
أُعَانِقُهَا وَالنَّفْسُ بَعْدُ مَشُوقَةٌ ... إِلَيْهَا وَهَلْ بَعْدَ الْعَنَاقِ تَدَانِي
وَأَلْثُمُ فَاهَا كَيْ تَزُولَ صَبَابَتِي ... فَيَزْدَادُ مَا أَلْقَى مِنَ الْهَيَمَانِ
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ الْكَاتِبُ
يَقُولُونَ لَوْ لاقَيْتَهَا سَكَنَ الَّذِي ... بِقَلْبِكَ يَا مُشْتَاقُ وَانْقَطَعَ الْحَزَنْ
فَهَا أَنَا قَدْ لاقَيْتُهَا مِثْلَ قَوْلِهِمْ ... لِيَسْكُنَ قَلْبِي بِاللِّقَاءِ فَمَا سَكَنْ
وَقَالَ ابْنُ الرُّومِيِّ
نَعِمَتْ بِهَا عَيْنِي فَطَالَ عَذَابُهَا ... وَلَكَمْ عَذَابٌ قَدْ جَنَاهُ نَعِيمُ
نَظَرَتْ فَأَقْصَدَتِ الْفُؤَادَ بِسَهْمِهَا ... ثُمَّ انْثَنَتْ نَحْوِي فَكِدْتُ أَهِيمُ
وَيْلاهُ إِنْ نَظَرَتْ وَإِنْ هِيَ أَعْرَضَتْ ... وَقْعُ السِّهَامِ وَنَزْعُهُنَّ أَلِيمُ