لم أفكّر أني موظف مرتبط بوظيفة عيشي وعيش أهلي منها، وأن لي إخوة أنا مسؤول عنهم لا يسَعني تركهم، وأن الرحلة تحتاج إلى مال وأنا رجل لا مال لي، وأنّى؟ وما ورثت من أحد شيئاً، وراتبي ست وثلاثون ليرة في الشهر؟
ما فكّرت بشيء من هذا لِما غلبني من الشوق إلى هاتيك المعاهد، إلى الأرض التي استقبلَت آخر رسالات السماء، إلى البلد الذي وُلد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وحبيب كل مسلم، والبلد الآخر الذي عاش فيه ومات فيه، والذي يحسّ مَن يزوره أن كل مكان فيه وكل جبل وكل حائط (أي بستان) يحدّثه حديث المصطفى الحبيب ويتلو سيرته.
إن الذي يحبّ إنساناً حباً أرضياً جسدياً يأنس بزيارة الدار التي وُلد فيها والبلدة التي عاش فيها، ويحبّ ما يذكّره به ويُخبره خبره، فكيف وحب المصطفى في قلب كل مسلم هو الحب السماوي، لأنه يتصل بوحي السماء الباقي، لأنه من شؤون الآخرة الباقية لا الدنيا الفانية؟
وشيء آخر جعلني أسارع إلى الموافقة وإن لم يكن كالأول، هو أني كنت أراها أمنيّة من الأماني، كلاماً يذهب في الهواء، كتصريحاتنا كلها واحتجاجاتنا وخطبنا وصياحنا في مظاهراتنا، وكنت موقناً أنها لن تكون رحلة ولن يذهب في هذه الرحلة أحد. فلما جاءني الشيخ ياسين يقول وهو مستبشر فرحاً: "هيا استعدّ فقد تقرّر السفر" سُقط في يدي ولم أدرِ ماذا أفعل! وقعت بين مشكلتين: إخلاف الوعد أو ضياع الوظيفة. ثم وجدت أن ضياع