إن الغاية واحدة، كلهم يريد الثواب إن كان مؤمناً والمجد إن كان طموحاً، ما اختلفت الغايات ولكن السرعة هي التي تختلف، فالشاب يريدها عاجلة جاهزة والشيخ يصبر ويتأنى.

وكان عندي موهبة الخطابة على أكمل صورها، يكفي أن أصعد المنبر وأواجه الناس حتى يتدفّق عليّ سيل الكلام.

والارتجال من أصعب الأشياء، فالخطيب يفكّر فيما يقول وفي انتقاء الألفاظ المعبِّرة عنه، يعرضها ليختار أحسنها، ويفكّر فيما قال قبلُ ليصله به ولا يقطعه عنه، وفيما سيقوله بعدُ ليسوّي له المعنى ويتخير له اللفظ. عمليات صعبة متعاقبة لا بد فيها من السرعة البالغة، وإلاّ انقطع الكلام وأعرض السامعون، تجري كلها معاً، ولكن الملَكة المكتسَبة تسهّلها والمرانة تهوّنها، حتى لا يشعر الخطيب بها ولا يحسّ ثقلها وإنما يستمتع بها. على أني لا أكتمكم، بل أعترف لكم، بأنها تمرّ بي الدقائق الأخيرة قبل أن أشرع بالخطبة ثقيلة، وأني ربما استشعرت الهيبة أحياناً، فإذا بدأت الكلام ذهب هذا كله.

أقول هذا وأنا أعلو هذه المنابر وأعتادها من يوم خطبت أول خطبة لي على درَج مدرسة طارق بن زياد الابتدائية في دمشق سنة 1921. أقوله وقد ألِفت هذه الأعواد وألِفَتني. لذلك أكره أن يقدّمني أحد حين أُحاضر؛ إنه يحمل عليّ ثقلين: ثقل المدح، ومدح المرء في وجهه إحراج له، وأنا أجيب من يسألني وأسب من يسبني، لكن ماذا أقول لمن يمدحني، لا سيما إذا كنت أعلم أنه يمدحني بلسانه ويشتمني بقلبه؟! الثقل الثاني: أني أحب أن تقصر

طور بواسطة نورين ميديا © 2015