والموسيقيّ الفقير الذي لم يكن يملك من دنياه إلا قيثارته، يناجيها ويسارّها ويُلقي بصدره على صدرها يبثّها شكوى نفسه ويُفرِغ فيها أحزان فؤاده. جاء بها فوضعها على المنصّة (وأنا أرى) ومشى. وأحسستُ -من غير أن أكلّمه- أنه مشى كما يمشي المُحبّ الذي ينصرف من جنازة حبيبته بعدما واراها التراب! وبطل الدرّاجات الذي جاء بدرّاجته وهي له كالآلة للموسيقيّ، هي خليلته ونجيّته وشقيقة روحه، فتنازل عنها لأسبوع التسلّح.
وهذا المثل الرائع -في إنكار النفس والإخلاص لله وابتغاء ثوابه وحده- مَثَل ضربه تاجرٌ من دمشق، تبرّع بخمسين ألف ليرة وحلّف اللجنة الأَيْمان الغِلاظ ألاّ تبوح باسمه (فما باحت باسمه، وإن كنتُ عرفته من ذلك اليوم وامتثلت لرغبته فلم أذكره لأحد، أمّا الآن وقد مضى على الحادثة ثلاثون سنة يجوز فيها إعلان الأسرار وكشف المخبّآت -كما تصنع الآن بريطانيا بوثائقها- الآن أستطيع أن أبوح باسمه رحمة الله عليه؛ إنه الحاجّ مسلم دياب). تصوّروا هذا الرجل يسمع الثناء على هذا المتبرّع المجهول فيملك نفسه، لا تحرّكه الأثرة حتى يقول: أنا ذلك المجهول. ويجد آخرين ينتحلون هذه المزيّة لأنفسهم أو لأصحابهم فيُعلنون أن هذا المجهول هو فلان أو فلان، لناس ما دفعوا شيئاً، وهو الذي دفع خمسين ألفاً (كانت في تلك الأيام أكثر من خمسة ملايين في أيامنا)، كان يسمع ويسكت ولا يقول شيئاً، ويلقى من يلومه على أنه لم يُعطِ عطاء الكرام فلا يقول لهم: لقد أعطيت وأنا صاحب تلكم الخمسين.
(رحمة الله عليك يا أيها الحاجّ مسلم دياب، وما أكثر في