ولكن أرجو أن يكون إخواننا في الشام ومصر والأردن قد اعتبروا بنا. ونظرت إلى الطفل فسمعت العجوز تقول له: قبّل يد عمّك. فجاء وجسده المحمارّ من البرد يبدو من ثقوب الثوب كزرّ من الورد أخذَت تتفتّح عنه الأكمام. كان بثوب رقيق ممزَّق، وأنا في المعطف الثقيل والعباءة من فوقي وأُحِسّ البرد يقرص عظامي!
وأحسست بقلبي يتمزّق كتمزّق هذه الأسمال، ولم يكن معي ما أساعده به إلاّ أن نزعت العباءة فلففته بها، وقلت لنفسي: فليُسعَدِ النطقُ إن لم يسعَدِ الحالُ. ورحت أكلّمه فلم أجد إلاّ أن قلت له: أتحبّ بابا؟ أحسب أن الشيخ أبوه، فقالت العجوز للولد: قول له: بابا في الجنة. قال: بابا في الجنة. أعادها بلهجته كأنه ببغاء ليس يدري ما يقول، فسكتُّ حائراً ملتاعاً. ثم أردتُ أن أقطع حبل الصمت بأيّ كلام فقلت: فماذا تصنع الآن؟ قال: إنني أوفّر لأشتري السكّين لأذبح اليهود كما ذبحوا بابا. وسكت اللسان ونطقَت العيون؛ لقد بكيت وبكى الحاضرون جميعاً، ومشيت وأنا لا أبصر من الدموع طريقي.
* * *
وقبل أن أختم هذه الحلقة لأكملها في التي تليها أسارع فأقول إن هذا التاجر لا يمثّل الفلسطينيين، وإنما هو البقعة السوداء في الثوب الأبيض، كان هو الشاذّ بينهم وليس هو القاعدة لهم. وأشهد أن لقد بذل الفلسطينيون (إلاّ قليلاً منهم) من دمائهم ومن أموالهم ما لا يبذل أكثرَ منه قومٌ مثلهم.
* * *