قال: دفعت ما عليّ، ما قصّرت. وأعرضَ عنا وأقبل على عمله.

يا سادة، هذه حادثة أرويها لكم كما وقعَت، ولو كان يجوز لي لعيّنتُ البلد والتاجر، ولولا أني قرأت في جريدة من الجرائد إشارة إلى قصة مثلها ما عرضت لها.

ومرّت سبع سنوات، وذهبت من سنتين (أي سنة 1953) إلى المؤتمر الإسلامي في القدس، ومررنا في الطريق بمخيَّم اللاجئين وأقبل الناس يسلّمون علينا، وإذا أنا بشيخ أبيض اللحية محنيّ الظهر غائر الصدغين رثّ الثياب، أحسستُ لمّا التقت العينان كأن قد برقَت عيناه برقة خاطفة وكاد يفتح فمه بالتحية، ثم تماسك وأغضى وارتبك كأنه يريد الفرار. فلما انتهى السلام راغ مني ودخل في غمار الناس. ولبثت أفكّر فيه من هو وأين قابلته، فما لبثت أن ذكرته، وتكشّف لي المنسيّ فجأة كأني كنت في غرفة مظلمة سطع فيها النور.

إنه هو، هو يا سادة. وكلّمته فتجاهلني، فلما ألححتُ عليه اعترف. ولم أشمت به، ومعاذ الله أن يراني أنحدر إلى هذه الدرك. ولم أُزعِجه بلوم أو عتاب، ولكن كان في نظرتي ما يوحي بالكلام، لذلك استبقني فقال: لا تقُل شيئاً، هذا هو القدَر، ولو كان لله إرادة لألهمني وألهم إخواني التجار النزول عن نصف ما كنا نملك. قلت: أوَلم يبقَ لك شيء؟ فابتسم ابتسامة حزينة يقطر من حواشيها الدمع وقال: بلى، بقي الكثير؛ بقيَت الصحّة والثقة في الله، وبقي هؤلاء. وأشار إلى امرأة عجوز وطفل صغير.

قلت: لا تيأس من رحمة الله. قال: الحمد لله أن جعلنا عبرة،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015