وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا أحلف على يمين, فأرى غيرها خيرًا منها إلا كفّرت عن يميني، وفعلت الذي هو خير".
وأيضًا فإن الكذب متى عُرف من أحد في شيء من الأخبار حصلت الريبة به، واتهم في حديثه، ولم يقع قوله في النفوس موقعًا، ولهذا ما ترك المحدثون الحديث عمن عرف بالوهم والغفلة، وسوء الحفظ، وكثرة الغلط مع ثقته في التعمد.
وأيضًا فإن تعمّد الكذب في أمور الدنيا معصية، والإكثار منه كبيرة بإجماع، مسقط للمروءة، وكلّ هذا مما يُنزّه عنه منصب النبوّة، وأما المرّة الواحدة منه فما كانت شنيعةً يُستبشع صاحبها، وتُخلّ به، فهي كذلك أيضًا، وما لا تقع هذا الموقع, فإن عددناها من الصغائر فهل تجري على حكمها من الخلاف؟ هذا مختلف فيه.
ثم قال رحمه الله تعالى: والصواب تنزيه النبوّة عن قليله وكثيره، سهوه وعمده، إذ عمدة النبوّة الإبلاغ، والإعلام، والتبيين، وتصديق ما جاء به، وتجويز شيء من هذا قادح في ذلك، ومشكك فيه، ومناقض للمعجزة, فلنقطع عن يقين بأنه لا يجوز على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام خلف في القول في وجه من الوجوه، لا بقصد، ولا بغير قصد، ولا نتسامح مع من تسامح في تجويز ذلك عليهم في حال السهو فيما ليس طريقه البلاغ.
هذا كله كلام القاضي عياض. قال العلائي: وهو الصواب الحقّ، إن شاء الله تعالى.
وحينئذ فيشكل على ذلك حديث ذي اليدين هذا، وقوله - صلى الله عليه وسلم - له: "كل ذلك لم يكن" نافيًا لما كان قد وقع، وقد ذكر الأئمة عن هذا أجوبةً كثيرةً.
أحدها: التزام تجويز السهو والنسيان فيما ليس طريقه الإبلاع من الأقوال، وهو القول الذي أشار إليه القاضي عياض وضعفه، فلا تفريع عليه.
ثانيها: أن المراد أن القصر والنسيان لم يكونا معًا، بل كان أحدهما، فيكون النفي للمجموع، لا للأفراد، أو لا يلزم من نفي الكلية نفي كلّ جزء من أجزائها. وهذا حكاه النووي -رحمه الله- عن جماعة من الشافعية، وهو ضعيف لوجهين:
أحدهما: القاعدة المستقرّة عند أرباب المعاني والبيان أن "كلًّا" إذا تقدمت، وخرجت من حيّز النفي، ثم كان بعدها، فإنها تقتضي نفي كلّ فرد فرد، لا نفي المجموع، ويدل عليه جواب ذي اليدين - رضي الله عنه - بقوله: قد كان بعض ذلك. فدلّ على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفى كل فرد، لا الكلية.
وثانيهما: أن قوله - صلى الله عليه وسلم - في الرواية: "لم أنس، ولم تقصر" يبطل هذا الوجه، فإنه