"الحياء خير كلّه"، رواه مسلم. (ومنها): ما قاله الحافظ ابن رَجَب رحمه الله تعالى فِي شرح هَذَا الْحَدِيث: والحياء نوعان: [أحدهما]: غريزي، وهو خُلُقٌ يمنحه الله تعالى العبد، ويَجبُلُهُ عليه، فيكُفّه عن ارتكاب القبائح، والرذائل، ويحثّه عَلَى فعل الجميل، وهو منْ أعلى مواهب الله تعالى للعبد، فهذا منْ الإيمان باعتبار أنه يؤثّر ما يؤثّره الإيمان منْ فعل الجميل، والكفّ عن القبيح، وربما ارتقى صاحبه بعده إلى درجة الإيمان، فهو وسيلة إليه، كما قَالَ عمر -رضي الله عنه-: منْ استحى اختفَى، ومن اختفى اتّقَى، ومن اتّقى وُقي. وَقَالَ بعض التابعين: تركت الذنوب حياءً أربعين سنة، ثم أدركني الورع. وَقَالَ ابن سَمْعُون: رأيت المعاصي نَذَالةٌ، فتركتها مروءة، فاستحالت ديانةً.
[والنوع الثاني]: أن يكون مُكتسبًا، إما منْ مقام الإيمان، كحياء العبد منْ مقامه بين يدي الله تعالى يوم القيامة، فيوجب له ذلك الاستعداد للقائه، أو منْ مقام الإحسان، كحياء العبد منْ اطّلاع الله تعالى عليه، وقربه منه، فهذا منْ أعلى خصال الإيمان. وفي حديث مرسل: "استحي منْ الله، كما تستحيي منْ رجلين منْ صالحي عشيرتك، لا يفارقانك"، ورُوي موصولاً (?). وسُئل النبيّ -صلى الله عليه وسلم- عن كشف العورة خاليًا؟ فَقَالَ: "الله أحقّ أن يُستحيى منه منْ النَّاس" (?). وفي حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- المرفوع: "الاستحياء منْ الله أن تحفظ الرأس، وما وعَى، والبطن، وما حوى، وأن تذكر الموت، والبِلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيى منْ الله حق الحياء". رواه الترمذيّ، وغيره (?). وأخرج البخاريّ فِي "التفسير" عن ابن عباس فِي قوله تعالى: {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ} الآية [هود: 5] إنها نزلت فِي قوم كانوا يُجامعون نساءهم، ويتخلّون، فيستحيون منْ الله، فنزلت الآية. وكان الصّدّيق -رضي الله عنه- يقول: استحيوا منْ الله، فإني أذهب إلى الغائط، فأظلّ متقنّعًا بثوبي حياء منْ ربّي عز وجل. وكان موسى -عليه السلام- إذا اغتسل فِي بيت مظلم لا يُقيم صلبه حياء منْ الله عز وجل. قَالَ بعض السلف: خَفِ الله عَلَى قدر قدرته عليك، واستحي منه عَلَى قدر