مع ذلك مزيد أمر منْ جهة إبداء هَذَا التصديق باللسان المعبِّرِ عما فِي القلب، إذ التصديق منْ أفعال القلوب؟ أو منْ جهة العمل بما صدّق به منْ ذلك، كفعل المأمورات، وترك المنهيّات، كما سيأتي ذكره، إن شاء الله تعالى. والإيمان -فيما قيل- مشتقّ منْ الأمن، وفيه نظرٌ؛ لتباين مدلولي الاْمن والتصديق، إلا إن لوحظ فيه معنى مجازيّ، فيقال: أمنه: إذا صدّقه: أي أمنه التكذيب. انتهى.
وَقَالَ فِي "القاموس": وآمن به إيمانًا: صدّقه، والإيمان: الثقة، وإظهار الخضوع، وقبول الشريعة. انتهى. وَقَالَ المرتضى فِي "شرحه": والإيمان: التصديق، وهو الذي جزم به الزمخشريّ فِي "الأساس"، واتّفق عليه أهل العلم منْ اللغويين، وغيرهم. وَقَالَ السعد: إنه حقيقة، وظاهر كلامه فِي "الكشاف" أن حقيقة آمن به آمنه التكذيب؛ لأن أمن ثلاثيًّا متعدّ لواحد بنفسه، فإذا نُقل لباب الإفعال تعدّى لاثنين، فالتصديق عليه معنى مجازيّ للإيمان، وهو خلاف كلامه فِي "الأساس"، ثم إن آمن يتعدّى لواحد بنفسه، وبالحرف، ولاثنين بالهمزة، عَلَى ما فِي "الكشّاف"، و"المصباح"، وغيرهما، وقيل: إنه بالهمزة يتعدّى لواحد، كما نقله عبد الحكيم فِي "حاشية القاضي"، وَقَالَ فِي "حاشية المطوّل": أمِن يتعدّى، ولا يتعدّى. وَقَالَ بعض المحقّقين: الإيمان يتعدّى بنفسه، كصَدّق، وباللام باعتبار معنى الإذعان، وبالباء باعتبار معنى الاعتراف، إشارةً إلى أن التصديق لا يُعتبر بدون اعتراف. وَقَدْ يكون الإيمان بمعنى الثقة، يتعدّى بالباء، بلا تضمين. قاله البيضاويّ. انتهى "تاج العروس" 9/ 125.
وَقَالَ الراغب الأصفهانيّ رحمه الله تعالى: آمن إنما يقال عَلَى وجهين: [أحدهما]: متعدّيا بنفسه، يقال: آمنته: أي جعلت له الأمن، ومنه قيل لله: مؤمن. [والثاني]: غير متعدّ، ومعناه صار ذا أمن.
والإيمان يُستعمل تارة اسما للشريعة التي جاء بها محمد -صلى الله عليه وسلم-، وعلى ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ} الآية [المائدة: 69]، ويوصف به كلّ منْ دخل فِي شريعته، مُقرّا بالله، وبنبوّته، قيل: وعلى هَذَا قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106].
وتارة يُستعمل عَلَى سبيل المدح، ويراد به إذعان النفس للحقّ عَلَى سبيل التصديق، وذلك باجتماع ثلاثة أشياء: تحقيق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بحسب ذلك بالجوارح، وعلى هَذَا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} الآية [الحديد: 19]. ويقال لكل واحد منْ الاعتقاد، والقول الصدق، والعمل الصالح: إيمان، قَالَ تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]، أي صلاتكم، وجُعل