ثيابًا جُدُدًا حَتَّى يغسلوها؛ لما فيها ممن يعاني قصر الثياب، ودقّها، وتجفيفها، وإلقاءها وهي رطبة عَلَى الأرض النجسة، ومباشرتها بما يغلب عَلَى الظنّ نجاسته منْ غير أن يُغسل بعد ذلك، فاشتد نكيره عليهم، وَقَالَ: هذه طريقة الخوارج الحروريّة، أبلاهم الله تعالى بالغلق فِي غير موضع القلق، وبالتهاون فِي موضع الاحتياط، وفاعل ذلك معترض على أفعال النبيّ -صلى الله عليه وسلم- والصحابة، والتابعين، فإنهم كانوا يلبسون الثياب الجدد قبل غسلها، وحال الثياب فِي أعصارهم كحالها فِي أعصارنا، ولو أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بغسلها ما خفي؛ لأنه مما تعمّ به البلوى.

وذكر أيضاً أن قوما يغسلون أفواههم إذا أكلوا الخبز؛ خوفًا منْ روث الثيران عند الدياس، فإنها تقيم أيامًا فِي المداسة، ولا يكاد يخلو طحينٌ عن ذلك، قَالَ: وهذا غلق، وخروج عن عادة السلف، وما روي عن أحد منْ الصحابة والتابعين أنهم رأوا غسل الفم منْ ذلك. انتهى. ذكر حكاية الجوينيّ العينيّ فِي "عمدة القاري" 1/ 344 - 345.

قَالَ القرطبيّ: [فإن قيل]: كيف يقال هَذَا، وَقَدْ فعل النبيّ -صلى الله عليه وسلم- مثل ذلك، لَمّا دخل بيته، فوجد فيه تمرةً، فَقَالَ: "لولا أني أخاف أن تكون منْ الصدقة لأكلتها" رواه أحمد 3/ 184. ودخول الصدقة بيت النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بعيدٌ؛ لأنها كانت محرّمة عليه، وعلى آله، لكنه راعى الاحتمال البعيد، والاحتمالات التي ذكرتم ليست بأبعد منْ هَذَا الاحتمال، فما وجه الانفصال؟.

[قلنا]: لا نسلّم أن ما توقّعه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ بعيدًا؛ لأنهم كانوا يأتون بصدقات التمر للمسجد، وحجرته -صلى الله عليه وسلم- متّصلة بالمسجد، فتوقع أن يكون صبيّ، أو منْ يغفل عن ذلك يُدخل التمر منْ الصدقة فِي البيت، فاتّقى ذلك لقربه بحسب ما ظهر، مما قرّب ذلك التقدير، وليس منْ تلك الصور فِي شىء؛ لأنها خليّةٌ عن الأمارات، وإنما هي محض تجويزات.

وأما إن كَانَ ذلك التجويز له مستند، معتبرٌ بوجه ما، فالأصل العمل بالراجح، والورع الترك، إن لم يلزم منه العمل بترك الراجح، وبيانه بالمثال، وهو أن جلد الميتة لا يطهره الدباغ فِي مشهور مذهب مالك، فلا يجوز أن يُستعمل فِي شيء منْ المائعات؛ لأنها تنجس، إلا الماء وحده، فإنه يدفع النجاسة عن نفسه؛ لأنه لا ينجس إلا إذا تغيّر، هَذَا الذي ترجّح عنده، ثم إنه اتّقى الماء فِي خاصّة نفسه.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي نقله منْ مذهب مالك رحمه الله تعالى، منْ أن جلد الميتة لا يطهر بالدباغ، خلاف السنة الصحيحة الصريحة: "أيما إهاب دُبغ،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015