وفي الاستدلال بذلك نظر، إلا إن أراد به أنه مُجمَل فِي حق بعض، دون بعض، أو أراد الرد عَلَى منكرى القياس، فيحتمل ما قَالَ. والله أعلم.
وقوله: "كراع يَرعى" هكذا فِي جميع نسخ البخاريّ، محذوف جواب الشرط، إن أُعربت "منْ" شرطية، وَقَدْ ثبت المحذوف فِي رواية الدارمي، عن أبي نعيم، شيخ البخاريّ فيه، فَقَالَ: "ومن وقع فِي الشبهات، وقع فِي الحرام، كالراعي يرعى"، ويمكن إعراب "منْ" فِي سياق البخاريّ موصولة، فلا يكون فيه حذف، إذ التقدير: والذي وقع فِي الشبهات، مثل راع يرعى، والأُولى أَولى؛ لثبوت المحذوف فِي "صحيح مسلم"، وغيره، منْ طريق زكريا التي أخرجه منها البخاريّ، وعلى هَذَا، فقوله: "كراع يرعى"، جملة مستأنفة، وردت عَلَى سبيل التمثيل، للتنبيه بالشاهد عَلَى الغائب. قاله فِي "الفتح".
وَقَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: قوله: "ومن وقع فِي الشبهات وقع فِي الحرام" وذلك يكون بوجهين: [أحدهما]: أن منْ لم يتّق الله تعالى، وتجرّأ عَلَى الشبهات، أفضت به إلى المحرّمات، بطريق اعتياد الجرأة، والتساهل فِي أمرها، فيحمله ذلك عَلَى الجرأة عَلَى الحرام المحض، ولهذا قَالَ بعض المتّقين: الصغيرة تجرّ إلى الكبيرة، والكبيرة تجرّ إلى الكفر، ولذلك قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "المعاصي بريد الكفر" (?) وهو معنى قوله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14].
[وثانيهما]: أن منْ أكثر منْ مواقعة الشبهات أظلم عليه قلبه؛ لفقدان نور العلم، ونور الورع، فيقع فِي الحرام، ولا يشعر به، وإلى هَذَا النور الإشارة بقوله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر: 22] وإلى ذلك الإظلام الإشارة بقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 22]. انتهى "المفهم" 4/ 493.
(قَالَ) صلّى الله تعالى عليه وسلم (وَسَأَضْرِبُ لَكُمْ فِي ذَلِكَ مَثَلا) أي لإيضاح تلك الأمور (إِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ، حَمَى حِمَى) بكسر الحاء المهملة، والقصر: هي فِي الأصل أرضٌ يَحميها الملوك، ويمنعون النَّاس عن الدخول فيها، فمن دخله أوقع به العقوبة.
قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: هَذَا مثلٌ ضربه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لمحارم الله تعالى، وأصله أن ملوك العرب كانت تحمي مراعي ماشيها الخاصّة بها، وتُحرّج بالتوعّد بالعقوبة عَلَى منْ قربها، فالخائف منْ عقوبة السلطان يبعُد بماشيته منْ ذلك الحمى؛ لأنه إن قرب منه فالغالب الوقوع، وان كثر الحذر، إذ قد تنفرد الفاذّة، وتشذّ الشاذّة، ولا تنضبط،