الأشياء قبل ورود الشرع، وفيه أربعة مذاهب: الأصحّ أنه لا يُحكم بحلّ، ولا حرمة، ولا إباحة، ولا غيرها؛ لأن التكليف عند أهل الحقّ لا يثبت إلا بالشرع. والثاني: أن حكمها التحريم. والثالث: الإباحة. والرابع التوقّف. والله أعلم. انتهى كلام النوويّ 11/ 29 - 30.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن الراجح القول بالإباحة فِي المنافع، وبالتحريم فِي المضارّ؛ لقوله عَزَّ وَجَلَّ فِي معرض الامتنان: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} الآية [البقرة: 29]، ولا يمتّن الله تعالى إلا بالجائز، ولما صح مما أخرجه أحمد، وغيره، منْ قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لَا ضرر، ولا ضرار" أي لا يجوز فِي ديننا، وإلى هَذَا أشار السيوطيّ فِي "الكوكب الساطع"، حيث قَالَ:
الْحُكْمُ قَبْلَ الشَّرْعِ فِي ذِي النَّفْعِ ... وَالضُّرِّ قَدْ مَرَّ وَبَعْدَ الشَّرْعِ
رُجِّحَ أَنَّ الأَصْلَ تَحْرِيمُ الْمَضَارُّ ... وَالْحِلُّ فِي ذِي النَّفْعِ وَالسُّبْكِيُّ صَارْ
إِلَي خُصُوصِهِ بِغَيْرِ الْمَالِ ... فَذَاكَ حَظْرٌ بِالْحَدِيثِ الْعَالِي
يعني أن حكم المنافع والمضارّ قبل الشرع قد مرّ فِي أوائل النظم عند قوله:
بِالشَّرْعِ لَا بِالْعَقْلِ شُكْرُ الْمُنْعِمِ ... حَتْمٌ وَقَبْلَ الشَّرْعِ لَا حُكْمَ نُمِي
وأما بعده فالأصحّ أن الأصل فِي المضارّ التحريم، وفي المنافع الحلّ؛ للآية، والحديث المذكورين، واستثنى السبكيّ منْ أن الأصل المنافع فِي الحلّ الأموالَ، قَالَ: والظاهر فيها التحريم؛ لحديث: "إن دماءكم، وأموالكم عليكم حرام"، وهو أخصّ منْ أدلّة الإباحة، وتعقّبه وليّ الدين العراقيّ، بأن الدعوى عامّة، والدليل خاصّ؛ لأنه فِي الأموال المختصّة، وما قاله العراقيّ هو الظاهر؛ انظر شرحي عَلَى "الكوكب الساطع" ص 482 - 483. والله تعالى أعلم.
(وَرُبَّمَا قَالَ) أي الراوي: النعمان، أو منْ دونه (وَإِنَّ بَيْنَ ذَلِكَ أُمُورًا مُشْتَبِهَةً) بالإفراد. زاد فِي رواية الشيخين: "فمن اتقى المشبهات، استبرأ لدينه، وعرضه، ومن وقع فِي الشبهات، كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه".
وقوله: "فمن اتقى المشتبهات": أي حَذِرَ منها. وقوله: "استبرأ لدينه، وعرضه" بالهمز بوزن استفعل منْ البراءة: أي بَرّأ دينه منْ النقص، وعرضه منْ الطعن فيه؛ لأن منْ لم يُعرَف باجتناب الشبهات، لم يسلم لقول منْ يطعن فيه. وفيه دليل عَلَى أن منْ لم يتوق الشبهة فِي كسبه، ومعاشه، فقد عَرَّض نفسه للطعن فيه، وفي هَذَا إشارة إلى المحافظة عَلَى أمور الدين، ومراعاة المروءة. قاله فِي "الفتح".