عند ملاقاة العدوّ، وإن كَانَ يؤدّي إلى الموت، وإنما بايعوه عَلَى هَذَا؛ لكونه فِي مقدور المكلّفين، يستطيعون الوفاء به.
وهذه المبايعة كانت يوم الحديبية، كما صرّح به فِي رواية مسلم، منْ طريق الليث بن سعد، عن أبي الزبير، عن جابر، قَالَ: كنا يوم الحديبية ألفا وأربع مائة، فبايعناه، وعمر آخذ بيده تحت الشجرة، وهي سَمُرة، وَقَالَ: بايعناه عَلَى أن لا نفر، ولم نبايعه عَلَى الموت.
قَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: قوله: "لم نبايعه عَلَى الموت" مخالفٌ لما قاله سلمة بن الأكوع أنهم بايعوه فِي ذلك اليوم عَلَى الموت، وكذلك قَالَ عبد الله بن زيد، وهذا خلافٌ لفظيّ، وأما المعنى فمتّفقٌ عليه؛ لأن منْ بايع عَلَى أن لا يفرّ حتى يفتح الله عليه، أو يُقتل، فقد بايع عَلَى الموت، فكأن جابرًا لم يسمع لفظ الموت، وأخذ غيره الموت منْ المعنى، فعبّر عنه، ويشهد لما ذكرته أنه قد رُوي عن ابن عمر فِي غير كتاب مسلم أن البيعة كانت عَلَى الصبر (?) وكان هَذَا الحكم خاصًا بأهل الحديبية، فإنه مخالفٌ لما فِي فِي كتاب الله تعالى، منْ إباحة الفرار عند مثلي العدد، كما نصّ عليه فِي سورة الأنفال، وعلى مقتضى بيع الحديبية لا فرار أصلاً، فهذا حكم خاصّ بهم والله تعالى أعلم - ولذلك قَالَ عبد الله بن زيد: لا أبايع عَلَى هَذَا أحداً بعد رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم (?).
ثم إن الناس اختلفوا فِي العدد المذكور فِي آيتي الأنفال، فحمله جمهور العلماء عَلَى ظاهره منْ غير اعتبار للقوّة والضعف، والشجاعة والجبن. وحكى ابن حبيب، عن مالك، وعبد الملك أن المراد بذلك القوّة، والتكافؤ، دون تعيين العدد. وَقَالَ ابن حبيب: والقول الأول أكثر، فلا تفرّ المائة منْ المائتين، وإن كانوا أشدّ جلدًا، وأكثر سلاحًا. قَالَ القرطبيّ: وهو الظاهر منْ الآية. قَالَ عياضٌ: ولم يُختلف أنه متى جُهل منزلة بعضهم عَلَى بعض فِي مراعاة العدد لم يجز الفرار. انتهى كلام القرطبيّ (?).