وقولها: "من أجل أنّهنّ اخترنه" قال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: يشير بذلك إلى أنهنّ لو لم يكنّ اخترنه كان ما قال طلاقًا، وهو خلاف ما يفيده ظاهر الآية، فإنه يُفيد أن الاختيار للدنيا ليس طلاقًا، وإنما إذا اخترن الدنيا، ينبغي له - صلى اللَّه عليه وسلم - أن يُطلّقهنّ، ولهذا قال أهل التحقيق: إن هذا الاختيار خارج عن محلّ النزاع، فلا يتمّ به الاستدلال على مسائل الاختيار، فليُتأمّل انتهى. وسيأتي تحقيق أقوال أهل العلم في المسألة قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم في "كتاب النكاح" -2/ 3202 - باب "ما افترض اللَّه -عَزَّ وَجَلَّ- على رسوله - صلى اللَّه عليه وسلم -، وحرّمه على خلقه؛ ليزيده إن شاء اللَّه قربةً إليه"، وقد استوفيت شرحه وبيان المسائل المتعلّقة به هناك، وبقي هنا البحث المتعلّق بالتخيير، وفيه مسائل:
(المسألة الأولى): ذهب جمهور أهل العلم من الصحابة، والتابعين، وفقهاء الأمصار على أن من خيّر امرأته، فاختارته، لا يقع عليه بذلك طلاق، واختلفوا فيما إذا اختارت نفسها، هل يقع طلقة واحدة رجعيّةً، أو بائنًا، أو يقع ثلاثًا؟. وحكى الترمذيّ عن عليّ - رضي اللَّه عنه -: إن اختارت نفسها فواحدةٌ بائنةٌ، وإن اختارت زوجها فواحدةٌ رجعيّةٌ. وعن زيد ابن ثابت - رضي اللَّه عنه -: إن اختارت نفسها فثلاثٌ، وإن اختارت زوجها فواحدة بائنة. وعن عمر، وابن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنهما -: إن اختارت نفسها فواحدةٌ بائنةٌ، وعنهما رجعيّةٌ، وإن اختارت زوجها فلا شيء.
ويؤيّد قول الجمهور من حيث المعنى: أن التخيير ترديدٌ بين شيئين، فلو كان اختيارها لزوجها طلاقًا لاتّحدا، فدلّ على أن اختيارها لنفسها بمعنى الفراق، واختيارها لزوجها بمعنى البقاء في العصمة. وقد أخرج ابن أبي شيبة من طريق زاذان، قال: كنّا جلوسًا عند عليّ - صلى اللَّه عليه وسلم -، فسُئل عن الخيار؟ فقال: سألني عنه عمر؟ فقلت: إن اختارت نفسها فواحدةٌ بائنٌ، وإن اختارت زوجها فواحدةٌ رجعيّةٌ. قال: ليس كما قلت، إن اختارت زوجها فلا شيء، قال: فلم أجد بُدًّا من متابعته، فلما وليت رجعت إلى ما كنت أعرف. قال عليّ: وأرسل عمر إلى زيد بن ثابت، فقال ... فذكر مثل ما حكاه عنه الترمذيّ. وأخرج ابن أبي شيبة من طرق عن عليّ - رضي اللَّه عنه - نظير ما حكاه عنه زاذان من اختياره.
وأخذ مالك بقول زيد بن ثابت، واحتجّ بعض أتباعه لكونها إذا اختارت نفسها تقع ثلاثًا بأن معنى الخيار بت أحد الأمرين، إما الأخذ، وإما الترك، فلو قلنا: إذا اختارت نفسها يكون طلقة رجعيّة لم يعمل بمقتضى اللفظ؛ لأنها تكون بعدُ في أسر الزوج،