وقال الداوديّ ليس في الخبر أنه استأذنها، ولا أنها وكلته، وإنما هو من قوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} الآية [الأحزاب: 6]. يعني فيكون خاصًّا به - صلى اللَّه عليه وسلم - أنه يزوّج من شاء من النساء بغير استئذانها لمن شاء، وبنحوه قال ابن أبي زيد.

وأجاب ابن بطّال بأنها لما قالت له: "وهبت نفسي لك" كان كالإذن منها في تزويجها لمن أراد؛ لأنها لا تُملَك حقيقة، فيصير المعنى جعلت لكَ أن تتصرّف في تزويجي انتهى.

قال الحافظ: ولو راجعا حديث أبي هريرة لما احتاجا إلى هذا التكلّف، فإن فيه كما قدّمته: "أن النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - قال للمرأة: إني أريد أن أزوّجك هذا إن رضيتِ، فقالت: ما رضيتَ لي، فقد رضيت". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): أن الحديث يدلّ على جواز تأمّل محاسن المرأة لإرادة تزويجها، وإن لم تتقدّم الرغبة في تزويجها، ولا وقعت خِطْبتها؛ لأنه - صلى اللَّه عليه وسلم - صَعَّدَ فيها النظر، وصوَّبه، وفي الصيغة ما يدلّ على المبالغة في ذلك، ولم يتقدّم منه رغبةٌ فيها، ولا خِطْبَةٌ، ثم قال: "لا حاجة لي في النساء"، ولو لم يقصد أنه إذا رأى منها ما يُعجبه أنه يَقبَلُها ما كان للمبالغة في تأمّلها فائدة.

ويمكن الانفصال عن ذلك بدعوى الخصوصية له؛ لمحلّ العصمة.

قال الحافظ: والذي تحرّر عندنا أنه - صلى اللَّه عليه وسلم - كان لا يحرم عليه النظر إلى المؤمنات الأجنبيّات بخلاف غيره.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما قاله الحافظ محلّ نظر، فليُتأمّل. واللَّه تعالى أعلم. قال: وسلك ابن العربيّ في الجواب مسلكًا آخر، فقال: يحتمل أن ذلك قبل الحجاب، أو بعده، لكنها كانت متلفّفة. وسياق الحديث يُبعد ما قال. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): أنه تجوز الخِطبة على خطبة مَنْ خَطَبَ إذا لم يقع بينهما ركون، ولا سيّما إذا لاحت مخايل الردّ. قاله أبو الوليد الباجيّ. وتعقّبه عياض وغيره بأنه لم يتقدّم عليها خِطْبةٌ لأحد، ولا ميلٌ، بل هي أرادت أن يتزوّجها النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم -، فعرضت نفسها مجّانًا، مبالغةً منها في تحصيل مقصودها، فلم يَقبَل، ولما قال: "ليس لي حاجة في النساء" عرف الرجل أنه لم يقبلها، فقال: "زوّجنيها"، ثم بالغ في الاحتراز، فقال: "إن لم يكن لك بها حاجة"، وإنما قال ذلك بعد تصريحه بنفس الحاجة؛ لاحتمال أن يبدو له بعد ذلك ما يدعوه إلى إجابتها، فكان ذلك دالًّا على وُفُور فطنة الصحابيّ المذكور، وحسن أدبه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015