ديوان الصبابه (صفحة 82)

أقول هذا باب عقدناه لذكر من استراح من العناء بسماع الغناء من كل محب يشبب بالشباب ويغني بالرباب فهو يضرب بالعود ويجمع من المذكور والمؤنث بين الشيء وضده لا يلهبه غير ملاهيه ولا سيما إذا كان في الغناء ممن يعرف الصواب ويقيم الأعراب ويشبع الألحان ويعدل الأوزان ويصيب أجناس الإيقاع ويعطي النغم حقه من الإشباع ويختلس مواضع النيرات ويستوفي ما شاكلها من النقرات ويحسن الاختلاس ويملأ الأنفاس وغير وذلك مما هو معروف عند أرباب هذا الشأن من القبان ممن جمع في ذلك بين الحسن والإحسان كما قيل:

ما تغنت إلا تفرج هم ... عن فؤادي وأقلعت أحزان

يفضل المسمعين طيباً وحسناً ... مثل ما يفضل السماع العيان

والناس في الغناء كلهم عبيد معبد واسحق الموصلي اللذين هما أطبع المتقدمين في الغناء فيما حكاه غير واحد من أرباب التاريخ وفي معبد يقول حبيب.

محاسن أوصاف المغنين جمة ... وما قصبات السبق إلا لمعبد

وقال البحتري يصف صهيل فرس هزج الصهيل كان في نغماته نبرات معبد في الصهيل الأول ومعبد هذا كان منقطعاً إلى البرامكة ومات في أيام الرشيد وأخباره أشهر من أن تذكر وقد ذكرها صاحب الأغاني وغيره وأما اسحق الموصلي فإنه كان من أهل العلم والأدب والرواية والتقدم في الشعر وسائل المحاسن أشهر من أن يوصف وهو الذي صحح أجناس الغناء وميز طرائقها تمييزاً لم يقدر عليه أحد قبله ولا بعده من تدقيق المجاري وتمييز الأصناف التي جعلوها صنفاً واحداً وهي في نفسها كذلك ولكنها تفترق عند متيقظ مثله من كلامه حدود الغناء أربعة النغم والتأليف والإيقاع والقسمة وكان قد سأل المأمون أن يكون دخوله مع أهل العلم والأدب لا مع المغنين فإذا أراده للغناء دعاه فأجابه إلى ذلك وقال الواثق ما غناني اسحق قط إلا ظننت أنه زيد في ملكي وأن اسحق لنعمة من نعم الملك التي لم يحظ أحد بمثلها ولو أن العمر والنشاط ما يشتري لشريته له بشطر ملكي وجلس عند إبراهيم ابن مصعب للشرب فسقى الغلمان من حضر وجاء غلام قبيح الوجه بقدح إلى اسحق فلم يأخذ منه فقال له إبراهيم ألا تشرب فقال:

أصبح نديمك أقداحاً تسلسلها ... من الشمول وأتبعها بأقداح

من كف ريم مليح الدل ريقته ... بعد الهجوع كمسك أكتفاح

لا تشرب الراح إلا من يدي ربنا ... تقبيل راحته أشهى من الراح

فدعا بوصيفة تامة الحسن في زي غلام عليها أقبية ومنطقة فسقته حتى سكر ثم أمر بتوجيها إليه بكل ما معها في داره ومما لحنه اسحق وله حكاية ظريفة:

قل لي من صد عاتباً ... ونأى عنك جانباً

قد بلغت الذي أردت ... وإن كنت لاعباً

واعترفن بما ادعيت ... وإن كنت كاذباً

وقد تركت حكاية هذه الأبيات خوف الإطالة وهذا القدر كاف في أخبار اسحق في هذا الموضع وحكى أبو الفرج أنه أهديت للرشيد جارية في غاية الجمال فخلا معها في قصره يوماً واصطبح فكان من حضر من جواريه للغناء والخدمة ما يزيد عن ألفي جارية في أحسن زي من الثياب والجواهر فوصل الخبر إلى أم جعفر فعظم ذلك عليها وأرسلت إلى علية أخت الرشيد تشكو إليها فأرسلت إليها علية لا يغيظك هذا فوالله لأردنه إليك وقد عزمت أن أصنع شعراً وأصوغ عليه لحناً وأطرحه إلى جواري فابعثي إلي كل جارية عندك وألبسيهن أنواع الثياب والجواهر حتى ألقي عليهن الصوت مع جواري ففعلت أم جعفر ما أمرتها به عليه فلما صلى الرشيد العصر لم يشعر إلا وعلية قد خرجت عليه من قصر ومعها ما ينيف عن ألفي جارية عليهن غرائب اللباس وكلهن في نغمة واحدة يغنين بهذين البيتين:

منفصل عني وما ... قلبي عنه منفصل

يا قاطعي قل لي لمن ... نويت بعدي أن تصل

طور بواسطة نورين ميديا © 2015