ولنعرض بعد ذلك إلى حالة اسبانيا وقت الفتح. كانت المملكة القوطية تجوز دور انحلالها قبل ذلك بأمد طويل، وكان المجتمع الإسباني يعاني صنوف الشقاء والبؤس، وقد مزقته عصور طويلة من الظلم والإرهاق والإيثار. ولم يكن القوط في الحقيقة أمة بمعنى الكلمة، فإنهم لم يمتزجوا بسكان الجزيرة، ذلك الامتزاج الذي يجعل الغالب والمغلوب، والحاكم والمحكوم، أمة واحدة. بل كان القوط يستأثرون بمزايا الغلبة والسيادة، وينعمون بإحراز الإقطاعات والضياع الواسعة، ومنهم وحدهم الحكام والسادة والأشراف. أما سواد الشعب الأعظم، فقوامه طبقة متوسطة رقيقة الحال، وزراع شبه أرقاء يلحقون بالضياع، وأرقاء للسيد عليهم حق الحياة والموت. وإلى جانب السادة والأشراف، يتمتع رجال الدين بأعظم قسط من السلطان والنفوذ؛ ذلك أن القوط كانوا أتقياء مؤمنين رغم خشونتهم، وكان للأحبار عليهم أيما تأثير، وقد استطاعوا أن يوجهوا القوانين والنظم، وأن يصوغوا الحياة العقلية والاجتماعية، وفقا لمثل الكنيسة وغاياتها. ثم استغلوا هذا النفوذ في إحراز الضياع وتكديس الثروات، واقتناء الزراع والأرقاء. وهكذا كانت ثروات البلاد كلها تجمع في أيدي فئة قليلة ممتازة من الأشراف ورجال الدين، اختصت بترف العيش ومتاع الحياة، وكل نعم الحرية والكرامة والاعتبار.
أما الشعب فقد كان في حالة يرثى لها من الحرمان والبؤس، يعاني أمر ضروب الظلم والعسف والإرهاق، ويُخص وحده دون الطبقات الممتازة، بأعباء المغارم والضرائب الفادحة، ومشاق العمل، والسخرة في ضياع الأشراف والأحبار، وتسلبه فروض العبودية والرق، كل شعور بالعزة والكرامة. ولم يكن الشعب كما قدمنا سوى كتلة مهيضة من طبقة فقيرة وسطى، ومن جمهرة من الزراع شبه الأرقاء والأرقاء، ومع ذلك فقد كان يقع عليه إلى جانب هذه الفروض والمغارم