للفيلسوف ابن حزم، وهو من أعظم مفكري عصر الطوائف، عن فتنة الطوائف، ودولها، وأمرائها المستهترين، ومجتمعها المنحل، وحكوماتها الباغية، طائفة من الأقوال والأحكام الصادقة، وردت في رسالته المعنونة " التلخيص لوجوه التخليص ". وهي عبارة عن ردود على بعض أسئلة في شئون دينية وفقهية، وجهت إليه من بعض أصدقائه، ومنها سؤال يتعلق بأمر الفتنة، وآخر عن وجه السلامة في المطعم والملبس والمكسب، وتتضمن هذه الأقوال من النظرات الثاقبة، والأحكام القاطعة، ما يدمغ مجتمع الطوائف بشدة وقسوة، وهي مع سلامة منطقها، وعدالتها، مما يبعث إلى النفس أشد ضروب الأسى والألم، فهو يصف لنا فتنة الطوائف وتصرفات ملوكها على النحو الآتي:

" وأما ما سألتم من أمر هذه الفتنة، وملابسة الناس بها، مع ما ظهر من تربص بعضهم ببعض، فهذا أمر امتحنا به، نسأل الله السلامة، وهي فتنة سوء، أهلكت الأديان إلا من وقى الله تعالى، من وجوه كثيرة يطول لها الخطاب.

وعمدة ذلك أن كل مدبر مدينة أو حصن في شىء من أندلسنا هذه، أولها عن آخرها، محارب لله تعالى ورسوله، وساع في الأرض بفساد. والذي ترونه عياناً من شنهم الغارات على أموال المسلمين من الرعية التي تكون في ملك من ضارهم، وإباحتهم لجندهم قطع الطريق على الجهة التي يقضون على أهلها، ضاربون للمكوس والجزية على رقاب المسلمين، مسلطون لليهود على قوارع طرق المسلمين في أخذ الجزية، والضريبة من أهل الإسلام، معتذرون بضرورة لا تبيح ما حرم الله، غرضهم فيها استدامة نفاذ أمرهم ونهيهم، فلا تغالطوا أنفسكم، ولا يغرنكم الفساق والمنتسبون إلى الفقه، اللابسون جلود الضأن على قلوب السباع، المزيفون لأهل الشر شرهم، الناصرون لهم على فسقهم " (?).

وقد كان الفقهاء في الواقع، في هذا العصر الذي ساد فيه الانحلال والفوضى الأخلاقية والاجتماعية، أكبر عضد لأمراء الطوائف في تبرير طغيانهم وظلمهم،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015