من تحامي عشيرته له، وإبعاده عنها حتى اجتنب منهم، وعزل البعير الأجرب الذي يعزل عن الإبل الصحاح حتى لا يصيبها بعداوه، وذلك حيث يقول:
وما زال تشرابي الخمور ولذتي ... وبيعي وإتلافي طريفي ومتلدي
إلى أن تحامتني العشيرة كلها ... وأفردت إفراد البعير المعبد
ومع شيوعها في الجاهلية وفقدان الوازع الديني الذي يحرمها لم يكن معاقروها مثلا أعلى يحتذي به بين الرجال، ولا كانوا قدوة صالحة بين الناس، لأنهم ساقطو الهمة لا يرجيهم الناس لدفع ضرر أو جلب منفعة، وذلك ما يصوره قول أحد شعراء الجاهلية:
وليس فتى الفتيان من جلُّ همه ... صبوح وإن أمسى ففضل غبوق
ولكن فتى الفتيان من راح أو غدا ... لضر عدو أو لنفع صديق
وواضح من هذا النص أن المثل الأعلى للفتوة والرجولة هو الشجاع القادر على منازلة الأعداء، الكريم القادر على نفع الأصدقاء، وليس المثل الأعلى للرجال ذلك المدمن على الشراب في صباحه ومسائه، فهو منعدم المروءة، ساقط الهمة، لا يرجى في حرب ولا سلم لأنه جعل همه هواه.
وفي سير شعراء الجاهلية ما يقدم لنا دليلا على أن الذين أولعوا بها واشتهروا بها بين قومهم وذويهم كانوا يدمنونها في مرحلة من مراحل طيش الشباب، وعرامة الفتوة، ألهاهم الغنى والترف عن التعلق بمعالي الأمور، وعن الانشغال بجلائل الأعمال، ففي حياة امرئ القيس لمحات دالة على أن انغماسه في اللذات وانهماكه في اللهو والشراب كان في الفترة الأولى من حياته وقد طرده أبوه حجر الكندي الذي كان ملكا على بني أسد، وبلغه مقتل أبيه وهو في مجلس شرابه، وقال قولته المشهورة التي صارت مثلاً: ضيعني صغيرا، وحملني دمه كبيراً اليوم خمرٌ، وغداً أمرٌ، لا صحو اليوم، ولا سكر غداً ". وكان ذلك الحادث فاصلاً بين عهدين وحداً بين مرحلتين في حياته.
وقد مدح زهير بن أبي سلمى حصن بن حذيفة الفزاري، فكان مما امتدح من فضائله أنه لا يشرب الخمر، ولا يهلك فيها ماله وإنما يذهب بماله كثرة عطاياه للمحتاجين، وذلك حيث يقول: