«التفجير» للعيون في المعنى، وأوقع على الأرض في اللفظ، كما أسند هناك الاشتعال إلى الرأس. وقد حصل بذلك من معنى الشّمول هاهنا، مثل الذي حصل هناك. وذلك أنه قد أفاد أنّ الأرض قد كانت صارت عيونا كلّها، وأن الماء قد كان يفور من كل مكان منها. ولو أجري اللفظ على ظاهره فقيل: «وفجّرنا عيون الأرض، أو العيون في الأرض»، لم يفد ذلك ولم يدلّ عليه، ولكان المفهوم منه أن الماء قد كان فار من عيون متفرّقة في الأرض، وتبجّس من أماكن منها.

واعلم أنّ في الآية الأولى شيئا آخر من جنس «النظم»، وهو تعريف «الرأس» بالألف واللام، وإفادة معنى الإضافة من غير إضافة، وهو أحد ما أوجب المزيّة. ولو قيل: «واشتعل رأسي»، فصرّح بالإضافة، لذهب بعض الحسن، فاعرفه.

وأنا أكتب لك شيئا مما سبيل «الاستعارة» فيه هذا السبيل، ليستحكم هذا الباب في نفسك، ولتأنس به.

فمن عجيب ذلك قول بعض الأعراب: [من الرجز]

اللّيل داج كنفا جلبابه ... والبين محجور على غرابه

ليس كلّ ما ترى من الملاحة لأن جعل للّيل جلبابا، وحجر على الغراب، ولكن في أن وضع الكلام الذي ترى، فجعل «الليل» مبتدأ، وجعل «داج» خبرا له وفعلا لما بعده وهو «الكنفان»، وأضاف «الجلباب» إلى ضمير «الليل»، ولأن جعل كذلك «البين» مبتدأ، وأجرى محجورا خبرا عنه، وأن أخرج اللفظ على «مفعول». يبيّن ذلك أنك لو قلت: «وغراب البيت محجور عليه، أو: قد حجر لي غراب البيت»، لم تجد له هذه الملاحة. وكذلك لو قلت: «قد دجا كنفا جلباب الليل»، لم يكن شيئا.

ومن النادر فيه قول المتنبي: [من الخفيف]

غصب الدّهر والملوك عليها ... فبناها في وجنة الدّهر خالا (?)

طور بواسطة نورين ميديا © 2015