هو المزجيّ لهما، والمبرم والناقض فيهما. ويكون بهما موافقا ومخالفا، ومصيبا ومخطئا، ومسيئا ومحسنا.
وجملة الأمر أن الخبر وجميع معاني الكلام معان ينشئها الإنسان في نفسه، ويصرّفها في فكره، ويناجي بها قلبه، ويراجع فيها عقله، وتوصف بأنّها مقاصد وأغراض. وأعظمها شأنا الخبر، فهو الذي يتصوّر بالصّور الكثرة، وتقع فيه الصناعات العجيبة، وفيه تكون المزايا التي بها يقع التفاضل في الفصاحة على ما شرحنا.
ثم إنّا نظرنا في المعاني التي يصفها العقلاء بأنها معان مستنبطة.، ولطائف مستخرجة ويجعلون لها اختصاصا بقائل دون قائل، وكمثل قولهم في معاني أبيات من الشعر: «إنه معنى لم يسبق إليه فلان، وأنه الذي فطن له واستخرجه، وأنه الذي غاص عليه بفكره، وأنّه أبو عذره، لم تجد تلك المعاني في الأمر الأعمّ شيئا غير الخبر الذي هو إثبات المعنى للشيء ونفيه عنه. يدلّك على ذلك أنك لا تنظر إلى شيء من المعاني الغريبة التي تختصّ بقائل دون قائل، إلّا وجدت الأصل فيه والأساس الإثبات والنّفي. وإن أردت في ذلك مثالا فانظر إلى بيت الفرزدق: [من الطويل]
وما حملت أمّ امرئ في ضلوعها ... أعقّ من الجاني عليها هجائيا (?)
فإنك إذا نظرت لم تشكّ في أن الأصل والأساس هو قوله: «وما حملت أم امرئ»، وأن ما جاوز ذلك من الكلمات إلى آخر البيت، مستند إليه ومبنيّ عليه، وأنك إن رفعته لم تجد لشيء منها بيانا، ولا رأيت لذكرها معنى، بل ترى ذكرك لها إن ذكرتها هذيانا. والسّبب الذي من أجله كان كذلك، أن من حكم كلّ ما عدا جزئي الجملة «الفعل والفاعل» و «المبتدأ والخبر»، أن يكون تخصيصا للمعنى المثبت أو المنفي، فقوله: «في ضلوعها»، يفيد أوّلا أنه لم يرد نفي الحمل على الإطلاق، ولكن الحمل في الضّلوع، وقوله: «أعقّ»، يفيد أنّه لم يرد هذا الحمل الذي هو حمل في الضّلوع أيضا على الإطلاق، ولكن حملا في الضلوع محموله أعقّ من الجاني عليها هجاءه. وإذا كان ذلك كلّه تخصيصا للحمل، لم يتصوّر أن يعقل من دون أن يعقل نفي الحمل، لأنه لا يتصوّر تخصيص شيء لم يدخل في نفي ولا إثبات، ولا ما كان في سبيلهما من الأمر به، والنهي عنه، والاستخبار عنه.
وإذ قد ثبت أن الخبر وسائر معاني الكلام، معان ينشئها الإنسان في نفسه، ويصرّفها في فكره، ويناجي بها قلبه، ويراجع فيها لبّه، فاعلم أن الفائدة في العلم بها