أن نستأنفه بعون الله تعالى منك نيّة حسنة تقيك الملل، ورغبة صادقة تدفع عنك السّأم، وأريحيّة يخفّ معها عليك تعب الفكر وكدّ النّظر، والله تعالى وليّ توفيقك وتوفيقنا بمنه وفضله. ونبدأ فنقول:

فإذا ثبت الآن أن لا شكّ ولا مرية في أن ليس «النظم» شيئا غير توخّي معاني النحو وأحكامه فيما بين معاني الكلم، ثبت من ذلك أن طالب دليل الإعجاز من نظم القرآن، إذا هو لم يطلبه في معاني النحو وأحكامه ووجوهه وفروقه، ولم يعلم أنها معدنه ومعانه (?)، وموضعه ومكانه، وأنّه لا مستنبط له سواها، وأن لا وجه لطلبه فيما عداها، غارّ نفسه بالكاذب من الطمع، ومسلم لها إلى الخدع، وأنه إن أبى أن يكون فيها، كان قد أبى أن يكون القرآن معجزا بنظمه، ولزمه أن يثبت شيئا آخر يكون معجزا به، وأن يلحق بأصحاب «الصّرفة» (?) فيدفع الإعجاز عن أصله، وهذا تقرير لا يدفعه إلّا معاند يعدّ الرجوع عن باطل قد اعتقده عجزا، والثّبات عليه من بعد لزوم الحجة جلدا، ومن وضع نفسه في هذه المنزلة، كان قد باعدها من الإنسانيّة. ونسأل الله تعالى العصمة والتوفيق.

وهذه أصول يحتاج إلى معرفتها قبل الذي عمدنا له.

اعلم أنّ معاني الكلام كلّها معان لا تتصوّر إلا فيما بين شيئين، والأصل والأوّل هو «الخبر». وإذا أحكمت العلم بهذا المعنى فيه، عرفته في الجميع. ومن الثّابت في العقول والقائم في النفوس، أنه لا يكون خبر حتى يكون مخبر به ومخبر عنه، لأنه ينقسم إلى «إثبات» و «نفي». و «الإثبات»، يقتضي مثبتا ومثبتا له، و «النفي» يقتضي منفيّا ومنفيّا عنه. فلو حاولت أن تتصوّر إثبات معنى أو نفيه من دون أن يكون هناك مثبت له ومنفي عنه، حاولت ما لا يصحّ في عقل، ولا يقع في وهم. ومن أجل ذلك امتنع أن يكون لك قصد إلى فعل من غير أن تريد إسناده إلى شيء مظهر أو مقدّر مضمر، وكان لفظك به، إذا أنت لم ترد ذلك، وصوتا تصوّته سواء.

وإن أردت أن تستحكم معرفة ذلك في نفسك، فانظر إليك إذا قيل لك: «ما فعل زيد»؟ فقلت: «خرج»، هل يتصوّر أن يقع في خلدك من «خرج» معنى من دون أن ينوى فيه ضمير «زيد»؟ وهل تكون، إن أنت زعمت أنك لم تنو ذلك، إلّا مخرجا نفسك إلى الهذيان؟

طور بواسطة نورين ميديا © 2015