مكان الخبيء ليطلب، وموضع الدّفين ليبحث عنه فيخرج، وكما يفتح لك الطريق إلى المطلوب لتسلكه، وتوضع لك القاعدة لتبني عليها. ووجدت المعوّل على أن هاهنا نظما وترتيبا، وتأليفا وتركيبا، وصياغة وتصويرا، ونسجا وتحبيرا، وأنّ سبيل هذه المعاني في الكلام الذي هي مجاز فيه، سبيلها في الأشياء التي هي حقيقة فيها، وأنه كما يفضل هناك النظم النظم، والتأليف التأليف، والنسج النسج، والصياغة الصياغة، ثم يعظم الفضل، وتكثر المزيّة، حتى يفوق الشيء نظيره والمجانس له درجات كثيرة، وحتى تتفاوت القيم التفاوت الشديد، كذلك يفضل بعض الكلام بعضا، ويتقدّم منه الشيء الشيء، ثم يزداد فصله ذلك ويترقى منزلة فوق منزلة، ويعلو مرقبا بعد مرقب، ويستأنف له غاية بعد غاية، حتى ينتهي إلى حيث تنقطع الأطماع، وتحسر الظنون (?)، وتسقط القوى، وتستوي الأقدام في العجز.

وهذه جملة قد يرى في أوّل الأمر وبادئ الظنّ، أنها تكفي وتغني، حتى إذا نظرنا فيها، وعدنا وبدأنا، وجدنا الأمر على خلاف ما حسبناه، وصادفنا الحال على غير ما توهّمناه، وعلمنا أنّهم لئن أقصروا اللفظ لقد أطالوا المعنى، وأن لم يغرقوا في النّزع (?)، لقد أبعدوا على ذاك في المرمى.

وذاك أنّه يقال لنا: ما زدتم على أن سقتم قياسا، فقلتم: نظم ونظم، وترتيب وترتيب، ونسج ونسج، ثم بنيتم عليه أنه ينبغي أن تظهر المزيّة في هذه المعاني هاهنا، حسب ظهورها هناك، وأن يعظم الأمر في ذلك كما عظم ثمّ، وهذا صحيح كما قلتم، ولكن بقي أن تعلمونا مكان المزيّة في الكلام، وتصفوها لنا، وتذكروها ذكرا كما ينصّ الشيء ويعيّن، ويكشف عن وجهه ويبيّن، ولا يكفي أن تقولوا: إنّه خصوصية في كيفية النظم، وطريقة مخصوصة في نسق الكلم بعضها على بعض، حتى تصفوا تلك الخصوصية وتبيّنوها، وتذكروا لها أمثلة، وتقولوا: «مثل كيت وكيت»، كما يذكر لك من تستوصفه عمل الدّيباج المنقّش ما تعلم به وجه دقّة الصنعة، أو يعمله بين يديك، حتى ترى عيانا- كيف تذهب تلك الخيوط وتجيء؟ وماذا يذهب منها طولا وماذا يذهب منها عرضا؟ وبم يبدأ وبم يثنّي وبم يثلّث؟ - وتبصر (?) من الحساب الدقيق ومن عجيب تصرّف اليد، ما تعلم معه مكان الحذق وموضع الأستاذية.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015