«وذهب الشّيخ إلى استحسان المعاني، والمعاني مطروحة وسط الطريق، يعرفها العربيّ والعجميّ، والحضريّ والبدويّ، وإنما الشعر صياغة وضرب من التّصوير».
وما يعنونه إذا قالوا: «إنه يأخذ الحديث فيشنّفه ويقرّطه، ويأخذ المعنى خرزة فيردّه جوهرة، وعباءة فيجعله ديباجة، ويأخذه عاطلا فيردّه حاليا». وليس كون هذا مرادهم، بحيث كان ينبغي أن يخفى هذا الخفاء ويشتبه هذا الاشتباه، ولكن إذا تعاطى الشيء غير أهله، وتولّى الأمر غير البصير به، أعضل الداء، واشتدّ البلاء. ولو لم يكن من الدّليل على أنهم لم ينحلوا «اللّفظ» الفضيلة وهم يريدونه نفسه وعلى الحقيقة إلّا واحد، وهو وصفهم له بأنه يزين المعنى، وأنّه حلي له لكان فيه الكفاية.
وذاك أن الألفاظ أدلّة على المعاني، وليس للدّليل إلّا أن يعلمك الشيء على ما يكون عليه، فأمّا أن يصير الشيء بالدليل، على صفة لم يكن عليها، فما لا يقوم في عقل، ولا يتصوّر في وهم.
وممّا إذا تفكّر فيه العاقل أطال التعجّب من أمر النّاس، ومن شدة غفلتهم قول العلماء حيث ذكروا «الأخذ» و «السرقة»: «إنّ من أخذ معنى عاريا، فكساه لفظا من عنده كان أحقّ به» (?)، وهو كلام مشهور متداول يقرأه الصّبيان في أوّل كتاب «عبد الرحمن»، ثم لا ترى أحدا من هؤلاء الذين لهجوا بجعل الفضيلة في «اللّفظ»، يفكّر في ذلك فيقول: من أين يتصوّر أن يكون هاهنا معنى عار من لفظ يدلّ عليه؟ ثم من أين يعقل أن يجيء الواحد منّا لمعنى من المعاني بلفظ من عنده، إن كان المراد باللفظ نطق اللسان؟
ثم هب أنه يصحّ له أن يفعل ذلك، فمن أين يجب إذا وضع لفظا على معنى، أن يصير أحقّ به من صاحبه الذي أخذه منه، إن كان هو لا يصنع بالمعنى شيئا، ولا يحدث فيه صفة، ولا يكسبه فضيلة؟ وإذا كان كذلك، فهل يكون لكلامهم هذا وجه سوى أن يكون «اللفظ» في قولهم «فكساه لفظا من عنده» (?)، عبارة عن صورة يحدثها الشاعر أو غير الشاعر للمعنى؟
فإن قالوا: بلى يكون، وهو أن يستعير للمعنى لفظا.
قيل: الشأن في أنّهم قالوا: «إذا أخذ معنى عاريا فكساه لفظا من عنده، كان أحق به»، و «الاستعارة» عندكم مقصورة على مجرّد اللّفظ، ولا ترون المستعير يصنع