ممن تكلموا في أمر الفصاحة والبلاغة بغير علم كالقاضي عبد الجبار وغيره من أئمة المعتزلة، فكان ذلك هو شغله الشاغل، الذي صرف إليه جلّ همه وعزمه.
ولو أن المصنف- رحمه الله- قصد إلى أن يكون كتابه كتابا تعليميا لكان على غير هذا الوضع، ولكن هذا شيء لم يقصد إليه.
وهذا ما دعا المتأخرين بعد زمان عبد القاهر الذين أفادوا من كتابي عبد القاهر هذين كل الإفادة، أن يتداركوا هذا الأمر وأن ينظموا ما تناثر من درره في هذين الكتابين في نظام واحد في هذا التقسيم الثلاثي الصارم لعلوم البلاغة الذي أتى به أبو يعقوب يوسف السكاكي في كتابه (مفتاح العلوم) الذي بلغ به الغاية من دقة التقسيم والتبويب والترتيب على ما يؤخذ عليه من المبالغة في هذا التقسيم والترتيب واعتماده فيه حدود المنطق وقواعده.
غير أنه لم يخل من عيب قاتل كذلك وهو جفاف مادته وعبارته، وشدّة إيجازه واقتضابه، وقلّة شواهده، وعدم اعتنائه بتحليل شواهده تحليلا بلاغيا أدبيا يضارع ما كان عليه أسلوب عبد القاهر من سلاسة ورقة وبهاء ورونق وهيهات هيهات فدونه وعبارة عبد القاهر وأسلوبه كما بين المشرق والمغرب.
ورغم ما قصد إليه أبو يعقوب السكاكي من الغاية التعليمية بجمع القواعد وترتيب المباحث والتقسيم إلى فصول وأبواب وفنون، رغم ذلك كلّه فقد أخفق في غايته في تذليل علوم البلاغة للدارس بل سلك بها مسلكا مضادا لغاية البلاغة ومقصدها؛ فإذا كانت غاية البلاغة تنمية الذوق الأدبي والارتقاء به؛ فإن طريقة السكاكي ومن سلكوا دربه من بعده قد أورثت الذوق العربي في ذلك الوقت عقما لازمه إلى عصرنا هذا حتى استيقظ الناس من سباتهم تلك القرون وأدركوا أنهم قد ضلوا السبيل إلى الفصاحة والبلاغة والبيان، وقامت صحوة بلاغية عرفت لعبد القاهر حقه فراحت تلتمس خطاه، وتلتقط درره، وتستلهم روحه وأفكاره في بعث بلاغي جديد لحمته وسداه قضية النظم التي ما فتئ عبد القاهر يدندن عليها في كتابه هذا،. ولعلّ هذا يبين لنا سرّ الاهتمام بهذين الكتابين الجليلين للإمام عبد القاهر الجرجاني وكثرة تداولهما، والإقبال على نسخهما من طلاب البلاغة في عصرنا هذا.
وهذا مما حفزني على الإقبال على الاعتناء بتخريج شواهد هذا الكتاب تخريجا مفصلا لا تجده في نشرة من نشراته السابقة، مع الاعتناء بشرح غريبه، وبيان