ولا يصحّ أن تقع الاستعارة فيه إلا على المعنى. وذلك ما كان مثل «اليد» في قول لبيد: [من الكامل]
وغداة ريح قد كشفت وقرّة، ... إذ أصبحت بيد الشّمال زمامها (?)
ذاك أنه ليس هاهنا شيء يزعم أنّ شبهه باليد، حتى يكون لفظ «اليد» مستعارا له، وكذلك ليس فيه شيء يتوهّم أن يكون قد شبّهه بالزمام، وإنما المعنى على أنه شبه «الشّمال» في تصريفها «الغداة» على طبيعتها، بالإنسان يكون زمام البعير في يده، فهو يصرّفه على إرادته، ولما أراد ذلك جعل للشّمال يدا، وعلى الغداة زماما.
وقد شرحت هذا قبل شرحا شافيا.
وليس هذا الضّرب من الاستعارة بدون الضرب الأول في إيجاب وصف «الفصاحة» للكلام، لا بل هو أقوى منه في اقتضائها. والمحاسن التي تظهر به، والصّور التي تحدث للمعاني بسببه، آنق وأعجب. وإن أردت أن تزداد علما بالذي ذكرت لك من أمره، فانظر إلى قوله: [من الرجز] سقته كفّ اللّيل أكواس الكرى (?) وذلك أنه ليس يخفى على عاقل أنه لم يرد أن يشبّه شيئا بالكفّ، ولا أراد ذلك في «الأكواس»، ولكن لما كان يقال: «سكر الكرى»، و «سكر النوم»، استعار للكرى «الأكواس»، كما استعار الآخر «الكاس» في قوله: [من البسيط] وقد سقى القوم كأس النّعسة السّهر (?) ثمّ إنه لمّا كان الكرى يكون في الليل، جعل الليل ساقيا، ولما جعله ساقيا جعل له كفّا، إذ كان السّاقي يناول الكأس بالكفّ.
ومن اللّطيف النادر في ذلك، ما تراه في آخر هذه الأبيات، وهي للحكم بن قنبر: [من الطويل]
ولولا اعتصامي بالمنى كلّما بدا ... لي اليأس منها، لم يقم بالهوى صبري
ولولا انتظاري كلّ يوم جدى غد، ... لراح بنعشي الدّافنون إلى قبري