ومن شأن ما غمض من المعاني ولطف، أن يصعب تصويره على الوجه الذي هو عليه لعامّة الناس، فيقع لذلك في العبارات التي يعبّر بها عنه، ما يوهم الخطأ، وإطلاقهم في «الاستعارة» أنها «نقل للعبارة عمّا وضعت له»، من ذلك، فلا يصحّ الأخذ به. وذلك أنّك إذا كنت لا تطلق اسم «الأسد» على «الرجل»، إلا من بعد أن تدخله في جنس الأسود من الجهة التي بيّنّا، لم تكن نقلت الاسم عما وضع له بالحقيقة، لأنك إنّما تكون ناقلا، إذا أنت أخرجت معناه الأصليّ من أن يكون مقصودك، ونفضت به يدك. فأمّا أن تكون ناقلا له عن معناه، مع إرادة معناه، فمحال متناقض.

واعلم أن في «الاستعارة» ما لا يتصوّر تقدير النقل فيه البتّة، وذلك مثل قول لبيد: [من الكامل]

وغداة ريح قد كشفت وقرّة ... إذ أصبحت بيد الشّمال زمامها (?)

لا خلاف في أن «اليد» استعارة، ثم إنك لا تستطيع أن تزعم أنّ لفظ «اليد» قد نقل عن شيء إلى شيء. وذلك أنه ليس المعنى على أنه شبّه شيئا باليد، فيمكنك أن تزعم أنه نقل لفظ «اليد» إليه، وإنما المعنى على أنه أراد أن يثبت للشّمال في تصريفها «الغداة» على طبيعتها، شبه الإنسان قد أخذ الشيء بيده يقبله ويصرّفه كيف يريد. فلما أثبت لها مثل فعل الإنسان باليد، استعار لها «اليد». وكما لا يمكنك تقدير «النقل» في لفظ «اليد»، كذلك لا يمكنك أن تجعل الاستعارة فيه من صفة اللفظ. ألا ترى أنه محال أن تقول: إنه استعار لفظ «اليد» للشّمال؟ وكذلك سبيل نظائره، مما تجدهم قد أثبتوا فيه للشيء عضوا من أعضاء الإنسان، من أجل إثباتهم له المعنى الذي يكون في ذلك العضو من الإنسان كبيت الحماسة: [من الطويل]

إذا هزّه في عظم قرن تهلّلت ... نواجذ أفواه المنايا الضّواحك (?)

فإنه لما جعل «المنايا» تضحك، جعل لها «الأفواه والنواجذ» التي يكون الضّحك فيها وكبيت المتنبّي: [من الطويل]

طور بواسطة نورين ميديا © 2015